للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأدرك الناس أن القضية سياسية في المقام الأول، ولكنها ليست ثوبًا دينيا، يقول المرحوم عبد الرحمن الرافعي في كتابه "في أعقاب ثورة ١٩١٩" "أن كتاب الإسلام وأصول الحكم كان في ظاهره يعارض الخلافة الإسلامية، أما في حقيقته فإنه يعارض النظام الملكي, وقد هاجمه الملك والحكومة بأساليب تستثير العواطف الدينية, ولكن الرأي العام كان أنضج من أن يتأثر بالدعاية الدينية التي كثيرًا ما يستخدمها دعاة الحكم المطلق وسيلة للتضليل بالشعب، فلم يكترث لهذه الدعاية التي ليست من الدين في شيء، وذلك على تقدمه في الوعي السياسي والديني معًا، وظل منكرًا متهاونًا لهذا النظام الذي أهدر حقوقه السياسية".

وبلور الدكتور محمد حسين هيكل -في تلك الفترة- مفهوم "حرية الفكر" من خلال مقالاته التي نشرتها صحيفة "السياسة", وأروع مقالاته المقال الذي كتبه بعد صدور الحكم على الشيخ علي عبد الرازق بعنوان "بعد قرار العلماء" خاطبه فيه في أسلوب ساخر فقال: "تعال نضحك فقد كان كتابك مصدرًا لتغير الأرثوذكسية في الإسلام١، ولست أنت الذي غيرها أيها الطريد المسكين، وإنما غيرها الذين طردوك وأخرجوك من الأزهر نعم كان أهل السنة، وما زالوا يرون أن الخلافة ليست ركنًا من أركان الدين، وأن الشيعة فسقوا حين عدوها كذلك, فلما قلت للناس في كتابك ما أجمع عليه أهل السنة، غضب عليك أهل الأزهر، ورموك بالابتداع والإلحاد، وأخذوا يقولون: إن الخلافة أصل من أصول الدين، وقد كنا نعلم أن القاهرة مركز أهل السنة وموطن الأشاعرة ومستقر الأرثوذكسية الإسلامية، فسبحان من يغير ولا يتغير: أصبحت "القاهرة" "كطهران" مركز الشيعة، وإنها بناء صلاح الدين؟! ولم لا؟ ... الشيعة هم الذين بنوا القاهرة وهم الذين بنوا الأزهر وشيدوه، أليس الفاطميون هم الذين أنشئوا المدينة ومسجدها الجامع؟ فأي عجب أن تعود مدينة القاهرة شيعية كما كانت يوم أسسها الفاطميون؟! وأي عجب في أن يعود الأزهر شيعيا كما كان يوم بناه الفاطميون؟! "٢.

واستمر هيكل يدافع عن حرية الرأي اعتمادًا على ما قرره الدستور، حتى تسود البلاد وتستقيم الأمور.

وعلى أي حال فقد كان كتاب "الإسلام وأصول الحكم" نقطة تحول في البحث عن الإسلام والسياسة بعد أن انقطع الحديث عنهما قرونًا منذ ابن تيمية وابن حزم وابن خلدون وغيرهم، وبدأت المكتبة المصرية تحفل بالكتب القيمة التي بسطت المبادئ والقواعد المتعلقة بشئون الدولة الإسلامية، كما كان الكتاب نقطة انطلاق شارك فيها علماء الدين وكبار الساسة وأصحاب الفكر بمقالاتهم، فاتسعت دائرة الجدل، ولم يعد الموضوع الأساسي هو الخلافة الإسلامية، وإنما أصبح موضوع الدولة في نظر الإسلام دينا وشريعة وتاريخًا.


١ يعني "المذهب السني" المحافظ.
٢ راجع، السياسة الصادرة في ١٤ من أغسطس ١٩٢٥.

<<  <   >  >>