للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تؤلف كتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، أنشأ فيها ما نسميه اليوم "علم الاجتماع"، وضمنها ما لم يستطيعه أحد قبله أن يأتي بمثله، بل عجز العديد من بعده أن يصلوا إلى شأوه. وتدل بحوثها على رسوخ قدمه في طائفة كبيرة من العلوم، فلم يترك أي فرع من ضروب المعرفة إلا ألم به حتى في فنون السحر، وأسرار الحروف والزيرجة والطلسمات.

ويعتبر موضوع ابن خلدون الذي حلل فيه أسباب شجاعة البدو، وخواص القبيلة والعصبية فيهم، وجبن أهل الحضر، ومظاهر حياتهم من أمثل النماذج على المقال الحديث يقول:

"والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألفوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة، وانغمسوا في النعيم والترف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم، والحاملة التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم، والحرز الذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيقة، ولا ينفر لهم صيد، فهم غارون آمنون، قد ألقوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال، وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم حتى صار ذلك خلقا يتنزل منزلة الطبيعة.

وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب، قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونهم إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم، فهم دائما يحملون السلاح، ويتلفتون عن كل جانب في الطرق، ويتجافون عن الهجوع إلا غرارا في المجالس وعلى الرمال فوق الأقعاب، ويتوجسون للنبات والهيقات، وينفرون في القفر والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم، قد صار لهم البائس خلقا، والشجاعة سجية، يرجعون إليها متى دعاهم داعٍ، أو استنفرهم صارخ.

وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم، لا يملكون معهم شيئا من أمر أنفسهم، وذلك مشاهد بالعِيَان حتى

<<  <   >  >>