للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأمرية فهو جبري ضال مبتدع، ومن نفى الإرادة الكونية القدرية فهو قدري ضال مبتدع. ومن قال: إن العبادة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ١ بمعنى: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي الكونية، فقد أدخل جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم في هذه العبادة، وجعل عابد الأصنام والشيطان، والأوثان عابدا للرحمن، قائما بما خلق الله له الإنس والجان، لكن بمعنى جريان الإرادة القدرية الكونية عليهم، لا بمعنى الاتحاد والحلول الذي قاله صاحب الفصوص، وطائفة الاتحاد الكفار. وقال قائلون بالجبر: لا شك أن الخلق معبدون بجريان الأقدار عليهم. يريدون أن ذلك هو المقصود بالآية، كما سيأتي حكاية هذا عن غيرهم، والعبادة وإن كانت لغة أقصى غاية الذل والخضوع مطلقا، كما في قوله:

تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد

فهي في الشرع أخص من ذلك، لأنها اسم للطاعة والانقياد للأوامر الشرعية الدينية التي دعت إليها الرسل، ودلت عليها الكتب السماوية، كما فسر ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا} ٢ بتوحيده وإخلاص العبادة له، نظرا منه إلى الحقيقة الشرعية لا إلى أصل الأوضاع اللغوية. وقد اعترض ابن جرير هنا بأصل الوضع واللغة، والحق ما قاله ابن عباس خلافا لابن جرير، بدليل قوله تعالى: {لا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ٣، وتعليلهم ما قالوه، بأن العبد لا يخرج عن فعل المولى إلا إذا كان المولى مغلوبا، والله -تعالى- هو الغالب وحده، أو نحو هذا التعليل. فهذا قد احتجوا به على القدرية النفاة، وهو احتجاج صحيح على من نفى القدر، وزعم أن العبد يخلق أفعال نفسه لأن الله -تعالى- لا يعصى عنوة، بل علمه


١ سورة الذاريات آية: ٥٦.
٢ سورة البقرة آية: ٢١.
٣ سورة الكافرون آية: ٣.

<<  <   >  >>