فأنزل الله تعالى ما بين لهم كل ما احتاجوا إليه بغاية البيان تارة بالقرآن وتارة بالسنة, فتفصلت تلك المجملات المكية, وتبينت تلك المحتملات وقيدت تلك المطلقات، ليكون ذلك الباقي المحكم قانونا مطردا واصلا مستنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وليكون ذلك تماما لتلك الكليات المقدمة, وبناء على تلك الأصول المحكمة فضلا من الله ونعمة، فالأصول الأولى باقية لم تتبدل ولم تنسخ لأنها في عامة الأمور كليات ضروريات, وما لحق بها وإنما وقع النسخ أو البيان على وجوهه عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات, وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مبينة على الاتصاف من النفس, وبذل الجهد في الامتثال بالنسبة إلى حق الله أو حقوق الآدميين، وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات والرخص والتخفيفات, وتقرير العقوبات في الجزئيات لا الكليات, فإن الكليات كانت مقررة محكمة بمكة, وما أشبه ذلك مع بقاء الكليات المكية على حالها, ولذلك يؤتى بها في السور المدنية تقريرا وتأكيدا, فكملت جملة الشريعة والحمد لله بالأمرين, وتمت واسطتها بالطرفين١.
هكذا يقرر الشاطبي أن الأحكام في مكة كانت كلية؛ فالصلاة حكم شرعي كلي، والصوم حكم شرعي كلي، والزكاة حكم شرعي كلي، بمعنى أنه يحتاج في المستقبل إلى تفصيل غير أنه يؤخذ على تعبيرات الشاطبي أنه ذكر أن تنفيذ هذه الأحكام كان موكولا إلى اجتهادهم