وقد أورد الباقلاني سؤالاً، وهو: "ما الفصل بين السحر والمعجز؟ ". ثمّ أجاب بقوله: "إنّ من حق المعجز أن لا يكون معجزاً حتى يكون واقعاً من فعل الله سبحانه وتعالى على حد خرق عادة البشر، مع تحدي الرسول عليه السلام بالإتيان بمثله، وتقريع مخالفه بتعذر مثله عليه. فمتى وجد الشيء الذي ينفرد الله سبحانه بالقدرة عليه على حد العادة، على غير تحدي نبيّ به، واحتجاج لنبوته بظهوره، لم يكن معجزاً ... فإذا كان ذلك ... كذلك، خرج السحر عن أن يكون معجزاً مشبهاً لآيات الرسل، وإن كان ما يظهر عند فعل الساحر من جنس بعض معجزات الرسل، وما يفعله الله تعالى عند تحديهم به. غير أنّ الساحر إذا احتج بالسحر، وادّعى به النبوة، أبطله الله عليه بوجهين" ... ثمّ ذكر هذين الوجهين، وهما: أن يُنسيه الله عمل السحر. والوجه الثاني: أن يوجد من السحرة من يعارضون هذا الساحر المدعي للنبوة. انظر البيان للباقلاني ص ٩٤-٩٥. إذاً: الفرق بين المعجز والسحر عنده: هو التحدي فقط، وإلا فالجنس واحد. وقال أيضاً: "ويجب في الجملة أن لا نستثني في السحر شيئاً لا يفعل عنده، إلا ما ورد الإجماع والتوقيف على أنه لا يكون بضرب من السحر". البيان ص ٩١. أما الجويني: فيرى أنّ كلّ ما خرق للنبي من الآيات الكبرى، يقع للولي، ولا فرق بين المعجزة والكرامة إلا دعوى النبوة. انظر: الإرشاد للجويني ص ٣١٧. ثم يقول عن السحر: "ولا يمتنع عقلاً أن يفعل الرب تعالى عند ارتياد الساحر ما يستأثر بالاقتدار عليه، فإنّ كلّ ما هو مقدور للعبد، فهو واقع بقدرة الله تعالى عندنا. والدليل على جواز ذلك [يعني السحر] كالدليل على جواز الكرامة، ووجه الميز هاهنا بين السحر والمعجزة؛ كوجه الميز في الكرامة، فلا وجه إلى إعادته". الإرشاد للجويني ص ٣٢٢. وقال أيضاً: "وجنس المعجزة يقع من غير دعوى، وإنما الممتنع وقوعه على حسب دعوى الكاذب". الإرشاد للجويني ص ٣٢٨. وقال أيضاً: "إنّ المعجز لا تدلّ لعينها، وإنما لتعلقها بدعوى النبي والرسالة، ونزولها منزلة التصديق بالقول". الإرشاد للجويني ص ٣١٩. فالجويني: يجعل الفرق بين المعجزة والكرامة هو التحدي فقط، وإلا فبإمكان الولي أن يكون له مثل معراج الرسول، وعصا موسى، وناقة صالح، ونار إبراهيم عليه السلام. ثمّ يجعل الفرق بين المعجز والسحر مثل الفرق بين المعجزة والكرامة، ويزعم أنّ بإمكان الساحر أن يأتي بجنس المعجز إذا لم يدّع النبوة. ويذكر الشهرستاني الفرق بين المعجزة والسحر؛ فيقول: "إذا لم يدّع الكاذب النبوة، فلا محذور ولا مانع من ظهور الخوارق". نهاية الإقدام للشهرستاني ص ٤٣٤. ويقول الإيجي: "إنّا بيّنّا أن لا مؤثر في الوجود إلا الله. والسحر ونحوه - إلا إن لم يبلغ حد الإعجاز؛ كفلق البحر، وإحياء الموتى، كما هو مذهب جميع العقلاء - فظاهرٌ، وإن بلغ. فأما دون دعوى النبوة والتحدي فظاهرٌ أيضاً، أو معه، فلا بُدّ من ألا يخلقه الله على يده، أو أن يقدر غيره على معارضته، وإلا كان تصديقاً للكاذب، وأنه محال". المواقف في علم الكلام للإيجي ص ٣٤٦. وقال المازري عن مذهب الأشعري، وأن الخوارق تقع على أيدي السحرة، مما ليس بمقدور الخلق: "ومذهب الأشعري: أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال: وهذا هو الصحيح عقلاً؛ لأنه لا فاعل إلا الله تعالى. وما يقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى، ولا تفترق الأفعال في ذلك، وليس بعضها بأولى من بعض..... فإن قيل: إذا جوزت الأشعرية خرق العادة على يد الساحر، فبماذا يتميّز عن النبيّ؟ فالجواب: أن العادة تنخرق على يد النبي والولي والساحر، لكن النبيّ يتحدّى بها الخلق". شرح النووي على صحيح مسلم ١٤١٧٥. وقال القرطبي: "قال علماؤنا: لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات، مما ليس في مقدور البشر،.... وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والري عند شرب الماء". الجامع في أحكام القرآن للقرطبي ٢٣٣. وقال ملا علي القاري: "كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، لا فارق بينهما إلا التحدي". شرح الفقه الأكبر ص ٧٩. وكلامهم في ذلك كثير، وكلّها فروق هزيلة كما تبيّن. وانظر حول هذا الموضوع أيضاً: شرح المقاصد للتفتازاني ٥١١، ٧٢-٧٤. وجوهرة التوحيد للصاوي ص ٩٨. وحاشية الأمير على شرح عبد السلام على الجوهرة ص ١٥٤. وهكذا نرى الأشاعرة يجعلون جنس الخارق واحد للمعجزة والكرامة والسحر، إلا أنّ الفرق بين المعجزة والكرامة هو دعوى النبوة والتحدي، والفرق بين الكرامة والسحر هو أنّ الكرامة تظهر على الرجل الصالح، والسحر يظهر على الرجل الفاسق، والفرق بين المعجزة والسحر هو كالفرق بين المعجزة والكرامة. وهذه الفروق ضعيفة، وغير مقبولة؛ لأنّها لا تميّز بين النبيّ والولي والساحر. وقد سبقت ردود شيخ الإسلام رحمه الله (في هذا الكتاب ص ٧٢٧-٧٢٨) على من فرّق هذه الفروق. وسيأتي مزيد توضيح، ونقد لطريقة الأشعرية في فروقهم هذه، وبيان عدم جدواها في التمييز بين النبيّ والمتنبي، مما فيه غنية عن ذكره هنا.