للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أن بلاد العرب الجنوبية كانت تقوم في ذلك الوقت بنفس الدور الذي تقوم به مصر الآن بعد حفر قناة السويس، نظرا لمركزها الهام على البحر الأحمر والمحيط الهندي، وحيث يوجد مضيق باب المندب، وفي تلك الأيام كانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية حريصة على انتزاع هذه المكانة وإعطائها لمصر، ومختلف الولايات الرومانية الشرقية الأخرى، التي تستطيع الإفادة من مركزها الجغرافي، وبخاصة فإن المسيحية كانت قد استقرت في كثير من الولايات الرومانية الشرقية، حتى اضطر "قسطنطين" "٣٠٦-٣٣٧م" في عام ٣١١م إلى السماح بانتشار المسيحية في بلاده١.

وهنا بدأ الرومان يفكرون في استغلال الدين لضم بلاد العرب الجنوبية إلى إمبراطوريتهم، فعمدوا إلى إرسال البعثات التبشيرية لتلك البلاد، لنشر المسيحية بين الحضر والبادية من جهة، ولتهيئة الأفكار والنفوس لقبول النفوذ الروماني من جهة أخرى٢. ومن ثم فلم يكن تعذيب ذي نواس للنصارى في بلاده، هو السبب الحقيقي للغزو الحبشي في اليمن، ودليلنا على ذلك أن المصادر الإغريقية -بل والحبشية نفسها- إنما تذهب إلى أن الأحباش قد أغاروا على اليمن قبل قصة التعذيب هذه بسنين، وأنهم قد انتصروا على "ذي نواس" واضطروه إلى الالتجاء إلى الجبال إلا أنه استطاع بعد فترة أن ينجح في لم شمل جنده، وأن يهاجم الأحباش وينتصر عليهم، وأن يغير على "نجران" ويتمكن من الاستيلاء عليها، بعد حصار دام سبعة أشهر٣، ثم ينتقم من أهلها شر انتقام٤، بل إن تدخل الأحباش في شئون اليمن ومحاولة غزوها، قد بدأ -كما أشرنا من قبل- منذ القرن الرابع الميلادي،


١ فؤاد حسنين: المرجع السابق ص٣٠١.
٢ إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب ص٣٦.
٣ J.B. Bury, Op. Cit., P.٣٢٣
٤ راجع عن قصة ذي نواس مع نصارى نجران والمعروفة بقصة أصحاب الأخدود: الفصل العاشر من الجزء الأول من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني" ثم انظر: "تاريخ الطبري ٢/ ١٢١٠١٢٥، تاريخ ابن خلدون ٢/ ٥٩-٥٦، تاريخ الخميس ص٢١٩٠٢٢٠، تاريخ اليعقوبي ١/ ١٩٩-٢٠٠، ابن الأثير ١/ ٤٣٠-٤٣٢، ابن كثير: البداية والنهاية ٢/ ١٢٩-١٣١، ١٦٢-١٦٩، المعارف ص٢٧٧، كتاب المحبر ص٣٦٨، الأخبار الطوال ص٦١-٧٢، ياقوت ٥/ ٢٦٦-٢٦٨، مروج الذهب ١/ ٨٠-٨١، ٢/ ٥٢، المقدسي ٣/ ١٨٢-١٨٤، قصص القرآن ص٢٩١-٢٩٣، تفسير الطبري ٣٠/ ١٣٣-١٣٤، تفسير البيضاوي ٢/ ٥٥٠، تفسير روح المعاني ٣٠/ ٨٨-٨٩، تفسير الفخر الرازي ٣١/ ١١٨، تفسير الكشاف ٢/ ١٥٩٤، تفسير القرطبي ١٩/ ٢٨٦-٢٩٣.

<<  <   >  >>