وَفِيهِ الْمُهِمُّ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ، هُوَ الْمُهِمُّ.
وَقَالَ فِي كِتَابِهِ السِّرِّ الْمَصُونِ: تَأَمَّلْت سَبَبَ الْفَضَائِلِ فَإِذَا هُوَ عُلُوُّ الْهِمَّةِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ مَرْكُوزٌ فِي الْجِبِلَّةِ لَا يَحْصُلُ بِالْكَسْبِ، وَكَذَلِكَ خِسَّةُ الْهِمَّةِ، وَقَدْ قَالَ الْحُكَمَاءُ: تُعْرَفُ هِمَّةُ الصَّبِيِّ مِنْ صِغَرِهِ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ لِلصِّبْيَانِ مَنْ يَكُونُ مَعِي؟ دَلَّ عَلَى عُلُوِّ هِمَّتِهِ، وَإِذَا قَالَ مَعَ مَنْ أَكُونُ؟ دَلَّ عَلَى خِسَّتِهَا.
فَأَمَّا الْخِسَّةُ فَالْهِمَمُ فِيهَا دَرَجَاتٌ مِنْهُمْ مَنْ يُنْفِقُ عُمْرَهُ فِي جَمْعِ الْمَالِ وَلَا يُحَصِّلُ شَيْئًا مِنْ الْعِلْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَضُمُّ إلَى ذَلِكَ الْبُخْلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَضِيَ بِالدُّونِ فِي الْمَعَاشِ، وَأَخَسُّهُمْ الْكُسَّاحُ.
فَأَمَّا عُلُوُّ الْهِمَّةِ فِي الْفَضَائِلِ فَقَوْمٌ يَطْلُبُونَ الرِّئَاسَةَ، وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ عَالِي الْهِمَّةِ فِي طَلَبِهَا، وَكَانَتْ "١هِمَّتُهُ الرِّضَاءَ١" فِي طَلَبِ الْخِلَافَةِ، وَكَانَ الْمُتَنَبِّي يَصِفُ عُلُوَّ هِمَّتِهِ، وَمَا كَانَتْ إلَّا التَّكَبُّرَ بِمَا يُحْسِنُهُ مِنْ الشِّعْرِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ غَايَةَ الْمَرَاتِبِ الزُّهْدُ فَيَطْلُبُهُ، وَيَفُوتُهُ الْعِلْمُ، فَهَذَا مَغْبُونٌ، لِأَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ مِنْ الزُّهْدِ، فَقَدْ رَضِيَ بِنَقْصٍ وَهُوَ لَا يَدْرِي، وَسَبَبُ رِضَاهُ بِالنَّقْصِ قِلَّةُ فَهْمِهِ، إذْ لَوْ فَهِمَ لَعَرَفَ شَرَفَ الْعِلْمِ عَلَى الزُّهْدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِلْمِ الْعَمَلُ، وَمَا يَعْلَمُ هَذَا أَنَّ الْعِلْمَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَذَاكَ أَشْرَفُ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ، وَمِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ مَنْ تَعْلُو هِمَّتُهُ إلَى فَنٍّ مِنْ الْعُلُومِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ وَهَذَا نَقْصٌ، فَأَمَّا أَرْبَابُ النِّهَايَةِ في علو الهمة
ــ
[تصحيح الفروع للمرداوي]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
١ في "ط": همته الرضاء والرضى: هو: علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق المعوف بالرضي أفتى وهو شاب في أيام مالك فجعله المأمون ولي عهده. السير ٩/٣٨٧.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute