فلندع إذن ذلك الحديث الطويل لفرصة أُخرى، ولأكتف هنا بأن أبدأ بكتاب "مستقبل الثقافة في مصر" الذي كتبه طه حسين في أعقاب معاهدة ١٩٣٦، والذي أصبح مكانه من كل حركات الهدم التي يسمونها إصلاحاً مثلَ مكان الدستور من القوانين. ولأكتف من هذا الكتاب في هذا المقام بفقرة واحدة منه هي الفقرة التاسعة والأربعون، التي أشار فيها إلى لونين من ألوان الدراسة اقترح إنشاءهما في كلية الآداب، وسعى عند المسؤولين في وضع اقتراحه موضع التنفيذ، فلم يحالفه النجاح في أيهِّما. أما أحد المشروعين فهو يدعو إلى إنشاء معهد للأصوات لدراسة اللهجات قديمها وحديثها. وقد عارض وكيل المالية الذي كان ممثلاً للدولة في مجلس الجامعة وقتذاك في منحه ما يحتاج إليه من مال, لأنه لم يستطع - على رواية المؤلف - أن يفهم قيمة هذا المعهد وحاجة المتعلمين إليه. أما المشروع الآخر فقد كان يدعو إلى إنشاء معهد للدراسات الإِسلامية يلحق بكلية الآداب. ومهمة هذا المعهد كما تصورها طه حسين هي العناية بالدراسات الإِسلامية (على نحو علمي صحيح). والمبرر لإِنشائه عنده هو أن (كلية الآداب متصلة بالحياة العلمية الأوروبية. وهي تعرف جهود المستشرقين في الدراسات الإِسلامية. ومن الحق عليها أن تأخذ بنصيبها في هذه الدراسات لتلائم بين جهود مصر التي ترى لنفسها زعامة البلاد الإِسلامية وبين جهود الأمم الأوربية).
ومضى على هذين المشروعين الفاشلين زمن طويل حتى كاد الناس ينسون ما كان من أمرهما وأمر صاحبهما. ودارت الأيام دورتها فإِذا المشروعان يظهران من جديد، ينجح أحدهما في اتخاذ طريقه إلى التنفيذ بإِنشاء شعبة في قسم اللغة العربية بجامعة الإِسكندرية تدعى (شعبة الدراسات العربية الحديثة)، وهي شعبة لا تزال - لحسن الحظ - حبراً على ورق منذ أنشئت في سنة ١٩٥٥ (*). وما أظن أن الطريق أمامها ميسَّر في واقعنا العربي الراهن. أما المشروع الآخر فقد عاد للظهور في صورة اقتراح مقدم من أحد أعضاء
(*) ألغيت هذه الشعبة من بعد في سنة ١٩٥٨ م، قبل أن توضع موضع التنفيذ. وكان قد صدر بها مرسوم جمهوري، ونشرتها الجامعة في تقويم كلية الآداب للعام الجامعي ١٩٥٥ - ١٩٥٦.