للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

حُصُوننَا مُهَدَّدة مِن دَاخِلهَا*

يظن بعض الناس أن الدول القوية هي التي تملك عدداً ضخمًا من عدد القتال وآلاته، وتنتج مقادير هائلة من الصناعات التي تغمر أسواق العالم. وحقيقة الأمر أن هذه الدول لا تتاح لها القوة حتى يكون من وراء كل هذه العدة الهائلة وذلك الإِنتاج الضخم خلق متين يجمع أهلها ويشد بعضهم إلى بعض، ويعطف كل واحد منهم على أخيه، ويمنع عناصر الفساد وأسباب الفرقة والخلاف أن تتسرب إلى صفوفهم وتنخر عظامهم. إن الدول لا تسود ولا تعلو بالحديد والنار ولا بالمال، ولكنها تسود وتعلو بالخلق المتماسك. وأعلى مصادر الخلق المتماسك وأعمقها جذوراً وأدومها أثراً هو الدين، فهو الذي يجمع الناس على التواد والتراحم ويقيهم ما طبعت عليه النفس البشرية من الشح، ويكف بعضهم عن بعض. وهذه هي دول الغرب، يستطيع كل ذي بصر أن يرى - كما رأى المؤرخ الإِنجليزي توينبي من قبل، منذ الحرب العالمية الأولى - مظاهر تدهورها وإنحلالها وهي في كامل مجدها الصناعي والآلي، لم يعوزها المال ولم تنقصها الآلات ولا المعارف الفنية ولا العلوم العقلية، ولكن أعوزها الخلق والدين، فسرى الفساد في جسدها ودب الخلاف في صفوفها. إن مظهر هذه الدول الضخم قد يخدع كثيراً من الناس فيظنون أن نهايتها بعيدة، والحقيقة أن الدول الكبيرة لا تضمر ولا تذوي ولا تنكمش، ولكنها تنهار كما ينهار عمود الخشب الضخم الذي نخر السوس لبه.


(*) نشرت في عدد المحرم وصفر سنة ١٣٧٧ من مجلة الأزهر.

<<  <   >  >>