كذلك انتهت كل الدول الكبرى من قبل، في أثينا وفي روما وفي بغداد وفي الأندلس وفي الأستانة. انتهت حين كانت ضخامتها ومظاهر الترف فيها تخدع الناظر عن السوس الذين ينخر عظامها.
وما ينبغي لنا أن نغفل عن هذا الدرس الماثل أمام أعيننا إن غفلنا عما حفظه التاريخ من دروس ومن عظات. يجب أن نعرف معرفة اليقين أن المتقدم الصناعي لا يغني عنا شيئاً إذا دبّ فينا دبيبُ الخلاف، فتفرقت بنا السبل وتوزعتنا الأهواء والآراء، ومزقتنا الدعوات المتنافرة التي ينقض بعضها بعضاً. والدين واللغة هما أهم دواعي الألفة والتماسك في كل مجتمع إنساني. فالدين هو الذي يوحّد العادات والأمزجة، فيجتمع الناس فيما يحبون وفيما يكرهون، وفيما يألفون وفيما يعافون، وفيما يستحسنونه وفيما ينفرون منه، على ألوان معينة من غذاء الأبدان والنفوس. واللغة هي الوعاء الذي يشتمل على ذلك كله، وهي أداة التفاهم التي لا يتم بدونها تواصل. ثم إنها بعد ذلك تجمع أمزجة الناس وأذواقهم على ألوان معينة من الأساليب البيانية في الجمال الفني. لذلك كانت المعاهد والمؤسسات التي تقوم على صيانة الدين واللغة هي بمثابة الحصون والمعاقل التي تسهر على حمايتنا وسلامتنا، وكانت العناية بأمرها خليقة أن تنال من اهتمامنا مثل ما تناله العناية بإِعداد العدة الحربية والصناعية بل أشد. وشر ما يطرأ على هذه المعاقل من الوهن أن تؤتىَ من بعض الذين وُكِلَ إليهم حمايتُها والدفاع عنها حين يخونون الأمانة، فيتسللون متلصصين إلى الأبواب يفتحونها للأعداء المهاجمين بِلَيْلٍ، والحماة الساهرون في غفلة لا يشعرون. من أجل ذلك سوف أتناول في هذه السلسلة بعض معاقل الدين واللغة، منبهاً إلى ما طرأ عليها من انحراف بعض حراسها.
ولا شك أن وزارات التربية والتعليم هي أهم هذه المعاقل والحصون الساهرة على أمن الشعوب وكيانها, لأنها هي المؤتمنة على أثمن ما تملكه الأمة من كنوز، وهى الثروة البشرية بما تنطوي عليه من قوى مادية ومن ملكات عقلية وخلقية، ممثلة في رجال الغد الذين تشرف على تربيتهم، وهي ثروة تتضاءل إلى جانبها كل كنوز الأرض، لأن كنوز الأرض لا تساوي شيئاً بدونها.