ها هنا غرض وفائدة في المنع من تسلّف الوديعة. واشترط ذلك على المودع إمّا لكون صاحبه يتيقّن بطيب أصل كسبه، أو لأنّه إذا صار من عنده الوديعة مطلوبًا به كما يطالب بالديون، وقد تحيط به الدّيون فيرجع المودع إلى المحاصة. أو يحوِجه إلى الطّلب فيثقل على المتسلف الأداء فيما طلبه، بخلاف أن يطلبه في الوديعة وهي حاضرة بعينها فإن ردها بعينها. مِمّا لا يثقل ولا يشق.
وإن أطلق الأمر في أصل الإيداع ولم يصرّح بالإذن فيه، فها هنا يقع الخلاف لأجل الإشكال الذي ذكرناه من كون الموح له غرض في عين ماله. فلا يخالف غرضه إلاّ بتصريحه بإذنه في المخالفة. أو يقال: إنّما المعلوم من غرض المودع صِيَانَةُ ماله وحفظه عليه، وإذا صار في ذمّة المودع بتسلّفه له، كان ذلك أبلغ في صيانته على ربّه، لكونه إذا بقي على حكم الأمانة فضاع، كان مصيبة ذلك من ربّه، وإذا صار ذلك في الذمة فلا يخشى ربه من ضياعه. فيكون تسلفه أبلغ في مقصوده من صيانته. فهذا سبب الاختلاف في جواز تسلف الوديعة. وقد قيل فيمن غصب دينارًا فأراد أن يردّ مثله ومنع صاحبَه من أخذ عينه، أنّ له ذلك. وهذا يشير إلى ما نبّهنا عليه من أن الدّراهم كالدراهم والدينار كالدّينار. ولا يتصور غرض يفرّق بينهما. فإذا بنينا على القول إنّ تسلف الوديعة منهيّ عنه، وإن كان المتسلّف موسرًا، فإنّه يكون بتسلفها متعدّيًا.
فإن تسلفها ثم ردها، فهل يبرأ بردها أم لا؟ قد قدّمنا ذكر اختلاف قول مالك فيه. فيكون القول بأنّه لا يبرأ بردها إذا ضاعت أوضاع بعضها ويصير كغاصب غصب مالًا ثمّ أخرجه من ذمته وأوقفه، فإنّه لا يبرأ إلَاّ برده إلى صاحبه. (وإن كان هذا يتقاصر عن غصب مال ثمّ أخرجه إلى أمانته، يكون مناول ذلك المال أجراها عليه باتّفاق وتسلّف الوديعة في جواز الخلاف الّذي ذكرناه)(١).
وإن قلنا: إنّ تسلّف الوديعة مباح، فها هنا قد يعرض إشكال لأن الإباحة بالشرع لا بإذن المالك. فيكون ردها في الذمّة إلى الأمانة. [هذا ما وجد من كتاب الوديعة].