للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الحدود ولا تلزمه عقوده للعلة الجامعة بينهما من فقدان العلم بتدبير المال، بل زاد السكران فقدان العقل كما نبّه الله سبحانه عليه، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (١) فلو كان السكر لا ينافي العلم لم يجعل الباري سبحانه ها هنا غاية وجود العلم فقدان السكر.

وأمّا عقوده في غير معاوضة، ولكنها تفتقر إلى قبول، كهباته، فإنها على القولين في بيعه وشرائه. لكن الهبة تفتقر إلى قبول الموهوب كما تفتقر عقود بياعاته إلى قبول المشتري منه.

وأمّا ما لا يفتقر إلى قبول كطلاقه وعتاقه فإنه يلزمه ذلك. هذا المعروف من المذهب.

وحكى بعض أشياخي عن بعض أشياخه أنه روى عن مالك أن طلاقه يلزمه، وهو مذهب ربيعة والليث وغيرهما. وما ذاك إلاّ بما قدمناه من التعليل من كونه أدخل على نفسه ما أفسد عقله تعديًا منه وظلمًا لنفسه، فصار فقدان عقله حكمه كحكم العدم، وكأنه باقٍ على ما كان عليه قبل شربه الخمر.

وقد علل مالك رضي الله عنه إلزامه الطلاق بكونه قد وقع منه الطلاق، ونحن لا نصدقه مع إيقاعه أنه بغير العقل حين إيقاعه لكونه تعدى في شربه، فلم يصدق فيما يدعيه من ذهاب العقل. ويؤكد هذا أن رفع التكليف عن الصبي والمجنون تخفيف ورخصة وترفيه ورفع مشقة، وفقيد العقل بالشرب قد أتى معصية وركب كبيرة. والمعاصي لا تجلب الرخص، لأن الترخيص في الشيء مسامحة في ركوبه وتسهيل لفعله، والشرع قد أقام الحدّ على أهل الفسوق زجرًا لهم عن معاودة المعصية وطردًا لغيرهم عنها مخافة العقوبة. فلو كان سكره يرفع عنه هذه الأحكام لكانت المعاصي كالرخص له فيها، وهذا عكس موضوع الشرع.


(١) النساء: ٤٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>