عقيبه. فتمالأ المشائخ المفتون حينئذ بالبلد على إنكار ذلك واجتمعوا بالقاضي وكان ممن يقرأ على، ويصرف الفتوى فيما يحكم به إليّ فسألوه أن يمنع من ذلك فأبى عليهم إلا أن يجتمعوا لمناظرتي على المسألة فأبوا فأبى (١) ...
يفيد هذا النص أنه تصدر للتدريس صغيرًا. وأنه قد ظهر نبوغه مع بواكير شبابه، إذ كان قاضي المهدية "عاصمة الصنهاجيين" أحد تلاميذه، ويعتمده في الفتوى للقضايا التي تعرض عليه. وبناء على هذا يكون عمره يوم ابتدأ التدريس دون العشرين سنة. وإذا كان قد عمّر ثلاثًا وثمانين سنة. كان مقتضى ذلك أنه جلس الطلبة حوله للأخذ عنه ما يقارب خمسًا وستين سنة. وفي هذه المدة الطويلة التي محض فيها نفسه للتدريس ونشر العلم يكون طلبته كثيرين قطعًا منهم النابغ النابه، ومنهم المتوسط والخامل. وقد أجود الشيخ محمَّد الشاذلي النيفر نفسه لشبع من ذكر من تلاميذه في كتب التراجم ممن أخذ عنه وممن كاتبه فأجازه وممن يحتمل أن يكون قد أخذ عنه وحتى من لم يلقه وإنما أجيز من تلاميذه فبلغ بهم أربعة وثلاثين. على أن الإجازة صلة اعتبارية أكثر منها حقيقية. وأن تلاميذه المذكورين الذين لم يبلغوا العشرين في هذه المدة الطويلة لم يذكر عن واحد منهم أنه انطبعت ملكته بالطريقة المازرية. على معنى أن السند العلمي الذي اتصل بالمازري من مشيخة القيروان عن طريق شيخيه اللخمي والصائغ قد وقف عنده. وأنه لم يخلف من يقوم على ذلك المنهج ومن يواصل امتداده فتوقف دفقه. وسنزيد ذلك بيانًا عند تعقيبنا على كلام المقري. وسبب ذلك يعود إلى ما حلل به ابن خلدون في مقدمته في الفصل الثاني من أن التعليم للعلم من جملة الصنائع. يقول: فاعلم أن سند التعليم لهذا العهد كاد ينقطع عن أهل المغرب باختلال عمرانه وتناقص الدول وما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع وفقدانها. كما مر وذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس. واستبحر عمرانهما. وكان فيهما للعلوم والصنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة. ورسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما. وما كان فيهما من الحضارة، فلما خربتا انقطع التعليم من المغرب إلا قليلًا كان في دولة الموحدين