قام الفقهاء بهذه المهمة النبيلة، فأعملوا عقولهم في الكتاب بعد ضبط قراءة النص القرآني متتبعين للآيات الواردة في الموضوع المبحوث فيه، ثم في السنة النبوية المطهرة القولية والفعلية والتقريرية، بعد أن نخلوا المرويات ولم يقبلوا منها إلا ما اطمأنوا إلى أنه عن لسان الوحي صدر. وقرنوا بين الكتاب والسنة، وعمقوا النظر، فنفذوا بما فتح الله عليهم إلى أبعادها. حسب قواعد الاستنباط وضوابطه، واستلهموا مكنوناتها بالمقابلة بين كل نص وما يماثله أو يشابهه لإبراز وجوه الشبه وما تقتضيه، أو ما يختلف عنه لإبداء الفوارق وآثارها في الاختلاف بين الصور ثم الأحكام. ثم إنهم شعورًا منهم بثقل الأمانة التي حُمّلوها دونوا ما وصلوا إليه بعد أن اقتصروا في المرحلة الأولى على الإفتاء وتخريج المتلقين عنهم على طرائق الاستنباط. فكان من ذلكم التدوين، الثروةُ الفقهية الكبرى في العالم الإِسلامي. ثروة تجمع في شمول وتقص أحكام أفعال المكلفين ضابطة لكل ما يتعلق بهم فرديًا واجتماعيًا، روحيًا وماديًا، حتى يتحقق في الحياة العملية، العبودية لله.
وقد تطور الفقه لارتباطه بتطور المجتمعات من فقه الصحابة والتابعين إلى المذاهب. هذه المذاهب التي انقسمت إلى ثلاث وحدات كبرى: الخوارج، والشيعة، وأهل السنة. وثبت على الزمن من المدارس الفقهية السنية الأربعة.
مدرسة أبي حنيفة النعمان ومدرسة مالك بن أنس. ومدرسة محمَّد بن إدريس الشافعي. ومدرسة أحمد بن حنبل رضي الله عنهم. وتوقفت مذاهب أخرى لانقطاع الأتباع الذين لهم القدرات على مواصلة نشر المذهب والتفريع والتخريج على أصوله في القضايا المستجدة، كمذهب الثوري والأوزاعي والحسن البصري والليث بن سعد وعثمان البتي وأبي ثور وابن أبي ليلى وأضرابهم، ممن كان لهم اتجاه واضح المعالم في الفقه ثم انطفأ.
وهذه المذاهب الأربعة المستمرة إلى اليوم قد انتشرت في فضاءات العالم الإِسلامي. قد ينفرد مذهب في قطر من الأقطار وقد يجتمع أكثر من مذهب.
وقد يكون لأحدها الظهور زمنًا ثم تمحي آثاره أو تكاد. وذلك تبعًا لعوامل