منهم من يوجبه، لأن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان إنما يكون عند اللَّه مؤمنًا، أو كافرًا باعتبار الموافاة، وما سبق في علمه أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، وهذا مأخذ كثير من الكلابية. ولأن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر اللَّه به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال العبد: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد زكى نفسه، وهذا منهي عنه في قوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: ٣٢] هذا المأخذ لبعض السلف الذين يوجبون الاستثناء في مثل هذه الحالة، ومنهم من حرمه كأبي حنيفة، وأصحابه، لأن الإيمان شيء واحد فمن استثنى في إيمانه، فهو شاك فيه. وذهب جمهور السلف إلى جوازه باعتبار، ومنعه باعتبار آخر فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه منع من الاستثناء بالإجماع، وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم اللَّه في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: ٢ - ٤]، وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: ١٥]. فهذا الاستثناء جائز، وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة، أو استثنى تعليقًا للأمر بمشيئة اللَّه لا شكًا في إيمانه. وعند التحقيق، والتدقيق في المسألة يتبين أن الخلاف لفظي، لأن من قطع بالحصول أراد بالإيمان مجرد الإذعان، وقبول العبادة، ومن فوض إلى المشيئة أراد ما يترتب عليه النحاة، والثمرات في المآل. =