ثبتت عدالته جازت روايته، وإلا عدل عنه، والتمس معرفة الحكم من جهة غيره لأن الأخبار حكمها حكم الشهادة في أنها لا تقبل إلا عن الثقات). وكما توجهت عناية علماء الحديت إلى دراسة الحديث من جهة السند، اهتموا أيضًا بدراسة متنه والنظر فيه، ولأنهما جهابذة صدقت نيتهم، وقوت عزيمتهم فقد ألهمهم الله الرشد، فقعدوا القواعد وشيدوا البنيان لمن بعدهم لمعرفة الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله رسلم من غيره فهذا الحافظ "ابن الصلاح" رحمه الله تعالى يقول: "وإنما يعرف كون الحديث موضوعا بإقرار واضعه أو ما يتنزل منزلة إقراره، وقد يفهمون الوضع من قرينة حال الراوي أو المروي، فقد وضعت أحاديث طويلة يشهد بوضعها ركاكة ألفاظها ومعانيها".
وهذا شيخ الإِسلام ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى- يضع قواعد كلية يميز بها بين موضوع الحديث وصحيحه دون النظر في إسناده، وكذلك نقل السيوطي -رحمه الله تعالى- في تدريب الراوي عن كثير من الأئمة قرائن وعلامات لمعرفة الحديث الموضوع الذي يناقض الأصول ويباين المعقول، ويخالف المنقول، وغني عن البيان أنه لا يقوى على ذلك -كما يقول ابن قيم الجوزية- (سوى من تضلع في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها مَلَكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنة والآثار أو معرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهديه فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر به ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة بحيث كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وآله وسلم كواحد من أصحابه، فمثل هذا يعرف من أحوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهديه وكلامه، وما يجوز أن يخبر به وما لا يجوز، ما لا يعرفه غيره، وقد ذكر هؤلاء الأئمة وغيرهم أحاديث كثيرة بينوا كذبها ووضعها وكأن هؤلاء الجهابذة قد علموا أنه سيأتي زمان كزماننا تتسرب فيه إلى بعض المستغربين من أبناء المسلمين فرية متهالكة وهى قولهم وبئس ما يقولون -إن اهمام المحدثين كان لدراسة الأسانيد منصرف دون النظر في المتن، وردوا بتلك الفرية أحاديث كثيرة قصرت أفهامهم عن استيعابها، وخالفت أهواءهم وعقولهم، والله حسيبهم هذا وقد أطلت في مقدمتي هذه لعلل يعرفها النابه، وخشية صرفه عن درر هذا الكتاب أتركه معه يخبر عن نفسه، وينبئى مؤلفه -حفظه الله- عن مكنونه وهو به خبير آملين ألا نعدم فائدة يزفها إلينا فاضل، أو فائتة يذكرنا بها نابه، أو نصيحة ينصحنا بها ناصح، ونحن له من الشاكرين، وسنواصل نشره تباعًا.