وانتُصر لسيبويه أن مميز هذا النوع فاعل في الأصل، وقد أوهن بجعله كبعض الفضلات فلو قدّم لازداد إلى وهنه وهنا فمنع ذلك لأنه إجحاف.
قلت: وهذا الاحتجاج مردود بوجوه: أحدها أنه دفع روايات برأي لا دليل عليه، فلا يلتفت إليه. الثاني أن جعل التمييز كبعض الفضلات محصل لضرب من المبالغة ففيه تقوية لا توهين، فإذا حكم بعد ذلك بجواز التقديم ازدادت التقوية وتأكدت المبالغة فاندفع الإشكال. الثلاث أن أصالة فاعلية التمييز المذكور كأصالة فاعلية الحال في نحو جاء زيد راكبا رجل فإن أصله جاء راكب، على الاستغناء بالصفة، وجاء رجل راكب، على عدم الاستغناء بها، والصفة والموصوف شيء واحد في المعنى، فقدم راكب ونصب بمقتضى الحالية ولم يمنع ذلك تقديمه على جاء مع أنه يزال عن إعرابه الأصلي وعن صلاحية الاستغناء به عن الموصوف، وكما تنوسي الأصل في الحال، كذلك تنوسي في التمييز. الرابع أنه لو صح اعتبار الأصالة في عمدة جعلت فضلة لصح اعتبارها في فضلة جعلت عمدة، فكان يجوز للنائب عن الفاعل من التقديم على رافعه ما كان يجوز له قبل النيابة، والأمر بخلاف ذلك، لأن حكم النائب فيه حكم المنوب عنه، ولا يعتبر حاله التي انتقل عنها التمييز المذكور. الخامس أن منع تقديم التمييز المذكور عند مَن منعه مرتّب على كونه فاعلا في الأصل، وذلك إنما هو في بعض الصور. وفي غيرها هو بخلاف ذلك نحو امتلأ الكوز ماء، وفجّرنا الأرض عيونا. وفي هذا دلالة على ضعف علة المنع، بقصورها عن جميع الصور. السادس أن اعتبار أصالة الفاعلية في منع التقديم على العامل متروك في نحو: أعطيت زيدا درهما، فإن زيدا في الأصل فاعل وبعد جعله مفعولا لم يعتبر ما كان له من منع التقديم، بل أجيز فيه ما يجوز فيما لا فاعلية له في الأصل، فكذلك ينبغي أن يفعل بالتمييز المذكور.
فثبت بما بيّنته أن تقديم التمييز على عامله إذا كان فعلا متصرفا جائز وإن كان سيبويه لم يجزه. وحكى ابن كيسان أن الكسائي أجاز نفسَه طاب زيد، وأن الفراء منع ذلك. فإن كان عامل التمييز غير فعل أو فعلا غير متصرف لم يجز التقديم بإجماع، فإن استجيز في ضرورة عُدَّ نادرا، كقول الراجز: