للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتعرت السبل، وظهرت مكابرة النفاة، وحصحص جحدهم للضروريات.

قالوا: نحن سلمنا بالتحسين والتقبيح العقلي للأفعال بمعنى الملاءمة والمنافرة، وبمعنى الكمال والنقصان، ولا ننازع فيه بهذين الاعتبارين، وإنما النزاع في كون العقل متعلق المدح والذم عاجلاً، والثواب والعقاب آجلاً.

وهذا التفصيل لو أعطي حقه، والتزمت لوازمه، رفع النزاع، وعادت المسألة اتفاقية، وأسفر ضوء الشمس عليها، وأدبرت ظلمات الاشتباه من حولها.

فالله جل في علاه يحب الكامل من الأفعال والأقوال، ويبغض الناقص منهما، وهو سبحانه يحب كل ما أمر به ويبغض كل ما نهى عنه، وبذلك ظهر تباين الأفعال وثبوت المرجحات بينها، وجلا بطلان استوائها أمام الحكيم العليم، واستحال مجيء شرعه على ضده وخلافه.

بقي حديث المدح والذم، والثواب والعقاب. فأما المدح والثواب لفاعل الكمال والمتحلي به، والذم والعقاب لفال النقص والمتصف به فهو أمر عقلي ومتعلق فطري، وإنكاره يزاحم المكابرة، وأما وقوع العقاب فمشروط بالسمع يقع به وينتفي بانتفائه، وانتفاؤه لانتفاء شرطه، لا لانتفاء سببه فسببه قائم ومقتضيه موجود قبل بلوغ السمع. وهذا هو فصل الخطاب في هذه المسألة، وهو المنصور لقوته وتدافق الأدلة عليه بلا تمانع ولا تعارض، ولسلامته من الوهن والتضارب.

دليل ذلك قوله تعالى (وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١).

قال ابن القيم: "فأخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة، وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقون من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولاً، ولم ينزل عليهم كتاباً؛ فقطع هذه الحجة


(١) سورة القصص، الآية: ٤٧.

<<  <   >  >>