أميل كان كما يقال: هي إلى غيرها أميل، فتبين أن فيها قوة موجبة لحب الله، والذل له، وإخلاص الدين له، وإنها موجبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض، كما أن فيها قوة تقتضي شرب اللبن الذي فطرت على محبته وطلبه.
مما يبين هذا: أن كل حركة إرادية فإن الموجب لها قوة في المريد، فإذا أمكن في الإنسان أن يحب الله، ويعبده، ويخلص له الدين كان فيه قوة تقتضي ذلك، إذ الأفعال الإرادية لا يكون سببها إلا من نفس الحي المريد الفاعل، ولا يشترط في إرادته إلا مجرد الشعور بالمراد، فما في النفوس من قوة المحبة له إذا شعرت به تقتضي حبه إذا لم يحصل معارض، وهذا موجود في محبة الأطعمة، والأشربة، والنكاح، والعلم وغيرها، وقد ثبت أن في النفس قوة المحبة لله، والإخلاص والذل له والخضوع، وأن فيها قوة الشعور به، فيلزم قطعا وجود المحبة له والتعظيم والخضوع بالفعل لوجود المقتضي إذا سلم عن المعارض. وتبين أن المعرفة والمحبة لا يشترط فيهما وجود شخص منفصل؛ وإن كان وجودها قد يذكر ويحرك، كما لو خوطب الجائع أو الظمآن بوصف طعام، أو خوطب المغتلم بوصف النساء؛ فإن هذا مما يذكره، ويحركه ويثير شهوته الكامنة بالقوة في نفسه؛ لا أنه يحدث له نفس تلك الإرادة والشهوة بعد أن لم تكن فيه فيجعلها موجودة بعد أن كانت عدما.
فكذلك الأسباب الخارجة عن الفطرة لا يتوقف عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق ومحبته وتعظيمه والخضوع له؛ وإن كان ذلك مذكرا ومحركا ومنبها ومزيلا للعارض المانع؛ ولذلك سمى الله سبحانه ما كمل به موجبات الفطرة بذكر وذكرى، وجعل رسوله مذكرا فقال:(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) وقال: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) وقال: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) وقال: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) وقال: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ