فالرسل تذكر بما في الفطر وتفصله وتبينه؛ ولهذا كان العقل الصريح موافقا: للنقل الصحيح، والشرعة مطابقة: للفطرة يتصادقان ولا يتعارضان خلافا لمن قال: إذا تعارض العقل والوحي قدمنا العقل على الوحي!!
فقبحا لعقل ينقض الوحي حكمه ... ويشهد حقا أنه هو كاذب
والمقصود أن الله فطر عباده على فطرة فيها: الإقرار به، ومحبته، والإخلاص له، والإنابة إليه، وإجلاله وتعظيمه، وأن الشخص الخارج عنها لا يحدث فيها ذلك، ويجعلها فيها بعد أن لم يكن، وإنما يذكرها بما فيها، وينبهها عليه، ويحركها له، ويفصله لها ويبينه، ويعرفها الأسباب المقوية والأسباب المعارضة له والمانعة من كماله. كما أن الشخص الخارج لا يجعل في الفطرة شهوة اللبن عند الرضاع، والأكل والشرب والنكاح، وإنما تذكر النفس وتحركها لما هو مركوز فيها بالقوة.
ومما يبين ذلك: أن الإقرار بالصانع مع خلو القلب عن محبته والخضوع له وإخلاص الدين له لا يكون نافعا، بل الإقرار به مع الإعراض عنه، وعن محبته وتعظيمه والخضوع له أعظم استحقاقا للعذاب، فلا بد أن يكون للفطرة مقتض للعلم، ومقتض للمحبة، والمحبة مشروطة بالعلم فإن ما لا يشعر به الإنسان لا يحبه، والحب للمحبوبات لا يكون بسبب من خارج بل هو جبلي فطري؛ فإذا كانت المحبة جبلية فطرية فشرطها وهو المعرفة أيضاً جبلي فطري؛ فلا بد أن يكون في الفطرة: محبة الخالق مع الإقرار به وهذا أصل الحنيفية التي خلق الله خلقه عليها وفطرته فطرهم عليها.
فعلم أن الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها؛ والحب لله والخضوع له والإخلاص هو أصل أعمال الحنيفية، وذلك مستلزم: للإقرار والمعرفة، ولازم اللازم لازم، وملزوم الملزوم ملزوم، فالفطرة ملزومة لهذه الأحوال، وهذه الأحوال لازمة لها (١).
(١) أي أن المحبة مستلزمة للمعرفة لاستحالة محبة المجهول، والإقرار والمعرفة أصل لانبثاق المحبة.