وهكذا لو احتاج أحد من المقلدين أن ينظر في مسألة لغوية لرجع إلى كتب اللغة وأخذ بقول أهلها ولم يلتفت في تلك المسألة إلى ما قاله من هو مقلّد له ولا عمل عليه، ولا سيما إذا عارض ما يقوله من هو من أئمة اللغة وخالف ما يوجد في كتبها، وهكذا لو أراد أحدهم أن يبحث عن مسألة أصولية أو كلامية أو تفسيرية أو غير ذلك من علوم العقل والنقل، لم يرجع في كل فن إلّا إلى أهله ولا يعوّل على سواهم، لأنه قد عرف أن أهل تلك الفنون أخبر بها وأتقن لها وأعرف بدقائقها وخفيّاتها وراجحها ومرجوحها وصحيحها وسقيمها بخلاف من يقلدونه فإنه وإن كان في علم الفقه بارعًا عارفًا به لكنه في هذه الفنون لا يرتقي إلى أقل أهله رتبة وأحقرهم معرفة ولا يرضى مقلدوه أن يعارضوا بقوله في هذه الفنون قول من هو أهلها، وإذا عرفت هذه من صنيعهم وتبينته فقل لهم ما بالكم تركتم خير الفنون نفعًا وأشرفه أهلًا وأفضله واضعًا وهو علم السنة فإنكم قد علمتم أن اشتغال أهل هذا العلم به أعظم من اشتغال أهل سائر الفنون بفنونهم وتنقيحهم له وتهذيبه، والبحث عن صحيحه وسقيمه ومعرفة علله، والإحاطة بأحوال رواته، وإتعاب أنفسهم في هذا الشأن ما لا يتعبه أحد من أهل الفنون في فنونهم حتى صار طالب الحديث في تلك العصور لا يكون طالبًا إلّا بعد أن يرحل إلى أقطار متباينة ويسمع من شيوخ عدة ويعرف العالي والنازل والصحيح وغيره، على وجه لا يخفى عليه مخرج الحرف الواحد من الحديث الواحد، فضلًا عن زيادة على ذلك، وفيهم من يحفظ مائة ألف حديث إلى خمسمائة ألف حديث إلى ألف ألف حديث هي على ظهر قلبه، لا تخفى عليه منها خافية ولا يلتبس عليه فيها حرف واحد، ومع هذا الحفظ والإتقان في المتون كذلك يحفظون ويتقنون أسانيدها على حد لا يخفى عليهم من أحوال الرواة شيء ولا يلتبس عليهم ما كان فيه من خير وشرّ وجرح وتعديل ويتركون من وجدوا في حفظه أدنى ضعف أو كان به أقل تساهل أو أحقر ما يوجب الجرح.