وبالجملة فمن عرف الفنون وأهلها معرفة صحيحة لم يبقَ عنده شك أن اشتغال أهل الحديث بفنهم لا يساويه اشتغال سائر أهل الفنون بفنونهم ولا يقاربه، بل لا يعدّ بالنسبة إليه كثير شيء فإن طالب الحديث لا يكاد يبلغ من هذا الفن بعض ما يريده إلّا بعد أن يفني صباه وشبابه وكهولته وشيخوخته فيه، ويطوّف الأقطار، ويستغرق بالسماع والكتب الليل والنهار، ونحن نجد الرجل يشتغل بفن من تلك الفنون العام والعامين والثلاثة فيكون معدودًا من محققي أهله ومتقنيهم، فما بالكم أيها المقلدة إذا أردتم الرجوع إلى فن السنّة لم تصنعوا فيه كما تصنعونه في غيره من الرجوع إلى أهل الفن وعدم الاعتداد بغيرهم، وهل هذا منكم إلّا التعصب البحت والتعسف الخالص والتحكم الصرف فهلّا صنعتم في هذا الفن الذي هو رأس الفنون وأشرفها كما صنعتم في غيره، فرجعتم إلى أهله وتركتم ما تجدونه مما يخالف ذلك في مؤلفات المشتغلين بالفقه، الذين لا يفرّقون بين أصح الصحيح وأكذب الكذب كما يعرف ذلك من يعرف نصيبًا من العلم وحظًا من العرفان، ومن أراد الوقوف على حقيقة هذا فلينظر مؤلفات جماعة هم في الفقه بأعلا رتبة، مع التبحر في فنون كثيرة كالجويني (١) والغزالي [ت ٥٠٥ هـ] وأمثالهما فإنهم إذا أرادوا أن يتكلموا في الحديث جاءوا بما يضحك منه سامعه ويعجب لأنهم يوردون الموضوعات فضلًا عن الضعاف ولا يعرفون ذلك ولا يفطنون به، ولا يفرقون بينه وبين غيره، وسبب ذلك عدم اشتغالهم بفن الحديث كما ينبغي، فكانوا عند التكلم فيه عبرة من العبر، وهكذا حال مثل هذين الرجلين وأشباههم من أهل طبقتهم مع تبحرهم في فنون عديدة فما بالك بمن يتصدى للكلام في فن الحديث ويشتغل بإدخاله في مؤلفاته وهو دون أولئك بمراحل لا تحصر، وهكذا تجد كثيرًا من أئمة التفسير الذين لم يكن لهم كثير اشتغال بعلم السنة