للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ناطقًا به في المشاهد، علمه بتراكم سحائب الجهل، وتلاطم أمواج بحار التعصب، واظلام أفق الإنصاف واكفهرار وجه الاسترشاد، فإن هذا وإن كان مسقطًا لما افترضه الله على من استخلصه من عباده لحمل حجته وإبلاغ شريعته لكن لكل عالم قدوة بأنبياء الله، وأسوة بمن أرسله من رسله فقد كانوا عليهم الصلاة والسلام يدبرون عباد الله بتدبيرات فيها من الرفق واللطف وحسن المسلك ما لا يخفى على أهل العلم. فإن نبينا قد تألّف رؤساء المشركين، وهم إذ ذاك حديثو عهد بجاهلية وترك المهاجرين والأنصار من الغنيمة وسيوفهم تقطر من دماء المُؤلَّفين واتباعهم ومن يشاكلهم فيما كانوا عليه. وصح عنه أنه ترك من كان منافقًا على نفاقه وعصمهم بظاهر كلمة الإسلام ولم يكشفهم، وَيَبْلُو (١) ما عندهم بعد أن ظهر منهم ما ظهر من النفاق كعبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين وقال: "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه". وقد اشتمل الكتاب والسنّة على ما كان يقع من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه من تدبير أمَمِهم والرفق بهم واغتنام الفرص في إرشادهم وإلقاء ما يجذبهم إلى الحق في الوقت بعد الوقت والحالة بعد الحالة على حسب ما تقبله عقولهم وتحتمله طبائعهم وتفهمه أذهانهم. فالعالم الذي أعطاه الله الأمانة وحمله الحجة وأخذ عليه البيان يورد الكلام مع كل أحد على حسب ما يقبله عقله وبقدر، استعداده، فإن كان كلامه مع أهل العلم الذين يفهمون الحجة ويعقلون البرهان ويعلمون أن الله سبحانه لم يتعبد عباده إلا بما أنزله في كتابه وعلى لسان رسوله، وحال بينهم وبين الالتفات إلى ذلك والرجوع إليه والعمل عليه ما تكدرت به فطرهم وتشوشت عنده أفهامهم، من اعتقاد حقية التقليد، أو استعظام الأموات من أهل العلم، أو استقصار أنفسهم عن


(١) في (ب) ويتلف.

<<  <   >  >>