للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من كان من سقط المتاع وسفساف أهل المهن كأهل "الحياكة" و "العصارة" و "القضابة" (١) ونحو ذلك من المهن الدنية، والحرف الوضيعة، فإن نفسه لا تفارق الدناءة (٢) ولا تجانب السقوط ولا تأبى المهانة ولا تنفر عن الضيم، فإذا اشتغل مشتغل منهم بطلب العلم ونال منه بعض النيل وقع في أمور: منها العجب والزهو والخيلاء، لأنه يرى نفسه بعد أن كان في أوضع مكان وأخس رتبة قاعدًا في أعلى محل وأرفع موضع، فإن منزلة العلم وأهله هي المنزلة التي لا تساميها منزلة وإن علت، ولا تساويها رتبة وإن ارتفعت، فبينما ذلك الطالب قاعد بين أهل حرفته من أهل الحياكة أو الحجامة أو الجزارة أو نحوهم في أخس بقعة وأعظم مهانة، إذ صار بين العلماء المتعلمين الذين هم في أعلى منازل الدنيا والدين. فبمجرد ذلك يحصل له من العجب والتطاول على الناس والترفع عليهم ما يعظم به الضرر على أهل العلم فضلًا عن غيرهم ممن هو دونهم، مع ما ينضم إلى ذلك من السخف الذي نشأ عليه وتلقاه من سلفه وسقوط النفس وضعف العقل ونذالة الهمة، ومثل تأثر الصبي لما ينشأ عليه من أخلاق آبائه لا ينكره أحد. ولهذا يقول فيما صح عنه في الصحيح: "كل مولود يولد على الفطرة ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" (٣) فإذا كان الصغير ينطبع بطابع الكفر بسبب أبويه، فما بالك بسائر الأخلاق التي يجدهما عليها.

ومما يقع فيه هذا الطالب الناشيء بين أهل الوضاعة المرتضع من ثدي الرقاعة أنه بحكم الطبع وألف المنشأ لا يرى في الناس إلا أهل حرفته وبني


(١) القضابة: نسبة إلى الزراعة وبيع القضب، وهو البرسيم.
(٢) هذه ليست قاعدة مطردة ولا عبرة في تقييم الشخص بمهنته لأن كثير من أصحاب المهن الوضيعة ما يفوقوا بأخلاقهم الكثير من ذوي الشرف المزعوم. (راجع تعقيبنا على هذه الفقرة والفقرة السابقة لها في مقدمة هذا التحقيق.
(٣) سبق تخريجه انظر ص ٨٨ (هامش).

<<  <   >  >>