لامامهم، وتزوج بنت وزيره، وذهب مرة بطريق السفارة من قبل إمام صنعاء
إلى مصر بهدية منه أرسلها على يديه إلى واليها، وكان هذا هو سبب المعرفة بينه وبين والي مصر
ووقوفه على بعض فضله وإشرافه على شيء من عظم شأنه، وكان شديد التحنن إلى ربوع طابة
عظيم التشوق إلى شذاها، فجاء مرة ليلقي بها جراناً، ويتخذ من أهلها جبراناً، فنزل فيهم يحبوهم
وينحلهم مما أعطاه الله سبحانه، ويقوم الأود منهم بنصحه ويسد الثلمة منه بوعظه، فكان الناس نقموا
منه هذه الخصلة، فقاموا عليه وكالبوه ورموه عن قوس واحدة، فقوض خباءه من فنائهم، وارتحل إلى
حيث وجهه مولاه وأشد من ذلك بلاءاً ما أبلاه الله به في الحديدة وذلك أنه حين كان بها أمر قاضيها
السيد حسين بن علي الحازمي، وكان يشايع الزيدية بعد ما خالف الشريف حمود بن محمد علي أهل
نجد سنة أربع وعشرين ومائتين وألف أن يزيد أهلها قول حي على خير العمل في ندائهم للصلوات
ويدعوا ما توارثوه من السلف في أذان الفجر من قولهم الصلاة خير من النوم فإنه كان يراها بدعة
إنما أحدثها عمر رضي الله عنه في إمرته، ولما رأى القاضي من امتناع الناس من ذلك الذي كان
يسوله ويدعوهم إليه اشتد باطله فسطا على الناس وحبس أربعين نفساً من الحنفية الذين كانوا بها
مكبولين في قيود من حديد، وكان الشيخ ممن حبسهم وقيدهم فلم يقصر من عدوانه عليه دون أن زاده
أذى، فجعل في رقبته ورقاب من يلوذ به من خويصة أهله أغلالاً، وأقامهم في الحبس ستة أيام، ثم
أخرجهم بأسرهم وخلى سبيلهم غير الشيخ فإنه أمر بضربه فضرب على ذلك، ثم نفاه من الحديدة ثم
أنه عاود مرة أرض قومه فدخل نواري من بلاد السند وأقام بها ليالي معدودات، ثم هزه الشوق إلى
بلاد العرب، فعطف إليها عنانه، ثم رزقه الله تعالى العود إلى المدينة، وأقام بها في غاية ما يكون من
العز، وولي رئاسة علمائها من قبل والي مصر، ولم يزل مجتهداً في العبادة وإقامة السنن والصبر
على الجفاء ونصح الأمة وخفض جناحه عليهم ونشر علومه حتى لقي الله عز وجل، كما في اليانع
الجني.
وقال القاضي محمد بن علي الشوكاني في البدر الطالع: إنه خرج إلى بندر الحديدة مع عمه وكان
عمه مشهوراً بعلم الطب مشاركاً في غيره، وصاحب الترجمة له اليد الطولى في علم الطب ومعرفة
متقنة بالنحو والصرف وفقه الحنفية وأصوله، ومشاركة في سائر العلوم، وفهم صحيح سريع، طلبه
خليفة العصر مولانا الإمام المنصور بالله إلى حضرته العلية من الحديدة لاشتهاره بعلم الطب، فوصل
الحضرة وانتفع جماعة من الناس بأدويته، وكان وصوله إلى صنعاء سنة ١٢١٣هـ وتردد إلي، وقرأ
علي في هداية الأبهري وشرحها للميبذي في الحكمة الإلهية، فكان يفهم ذلك فهماً جيداً مع كون
الكتاب وشرحه في غاية الدقة والخفاء، بحيث كان يحضر حال القراءة جماعة من أعيان العلماء
العارفين بعدة فنون فلا يفهمون غالب ذلك، ثم عاد إلى الحديدة في شهر شوال من تلك السنة بعد أن
أحسن إليه الخليفة وقرر له معلوماً نافعاً، وكساه ونال من فائض عطاه، ثم تكرر وفوده إلى صنعاء
مرة بعد مرة في أيام الإمام المنصور كما ذكرنا، ثم في أيام الإمام المتوكل، ثم في أيام مولانا الإمام
المهدي، وأرسله إلى مصر إلى الباشا محمد علي بهديته منها فيل، وكان ذلك سنة ١٢٣٢هـ ورجع
وأخبرنا باندراس العلم في الديار المصرية وأنه لم يبق إلا التقليد أو التصوف، انتهى.
وقال الشيخ محسن بن يحيى الترهتي في اليانع الجني: إنه كان من أحسن الناس هدياً وسمتاً في
زمانه، خلف من مصنفاته كتباً مبسوطة ومختصرة نافعة مفيدة، فمنها كتابه المواهب اللطيفة على
مسند الإمام أبي حنيفة اقتصر فيه على رواية الحصكفي، ومنها كتابه طوالع الأنوار على الدر
المختار حافل جداً، استوفى فيه غالب فروع مذهب أصحابه، واستوعب مسائل الواقعات والفتاوي،
ومنها كتابه شرح تيسير الوصول لابن الديبع الحافظ الشيباني، بلغ منه إلى كتاب الحدود من حرف
الحاء، وله كتاب مبسوط في الأسانيد المسمى بحصر الشارد في أسانيد محمد عابد أتمه في بندر مخا
في شهر رجب سنة ١٢٤٠هـ، وقيل له شرح على بلوغ المرام لابن حجر الحافظ العسقلاني غير أنه
لم يكمله، ومن صالحاته الباقيات ما وقفه من كتبه المستجادات من سائر الفنون وهي على