خمس وأربعين ومائة وألف، واشتغل بالعلم على أساتذة بلدته زماناً، ثم خرج منها فجاء
إلى سنديله وخير آباد وقرأ على أساتذتها، ثم سافر إلى دهلي، وأخذ عن الشيخ ولي الله بن عبد
الرحيم الدهلوي، ثم ذهب إلى سورت وأخذ عن الشيخ خير الدين بن زاهد السورتي، وأقام عنده
سنة، ثم سافر إلى الحجاز سنة أربع وستين وأقام بزبيد بفتح الزاي دارة علم معروفة باليمن، وأخذ
عن السيد أحمد بن محمد مقبول الأهدل ومن في طبقته كالشيخ عبد الخالق بن أبي بكر المزجاجي
والشيخ محمد بن علاء الدين المزجاجي، وأجازه مشايخ المذاهب الأربعة، وعلماء البلاد الشاسعة،
وحج مراراً واجتمع بالسيد عبد الرحمن العيدروس بمكة المشرفة، وقرأ عليه مختصر السعد ولازمه
ملازمة كلية، وهو الذي شوقه إلى مصر، فذهب إليها ودخل في تاسع صفر سنة سبع وستين، وسكن
بخان الصاغة، وحضر دروس أشياخ الوقت، كالشيخ أحمد الملوي والجوهري والحفني والبليدي
والصعيدي والمدابغي وغيرهم، وتلقى عنهم وأجازوه وشهدوا بعلمه وفضله وجودة حفظه، وسافر إلى
الجهات البحرية مثل رشيد ودمياط وسمع الحديث من علمائها، وكذلك سافر إلى أسيوط وبلاد الصعيد
وتلقى عن علمائها، ثم تزوج وسكن بعطفة الغسال، وشرع في تصنيف الكتاب الذي شاع ذكره وطار
في سائر الأقطار والأمصار، الدال على علو كعبه ورسوخ قدمه في علم اللغة المسمى بتاج العروس،
حتى أتمه عشر مجلدات كوامل في أربعة عشر عاماً وشهرين، وعند إتمامه أولم وليمة حافلة جمع
فيها طلبة العلم وأشياخ الوقت، وأطلعهم عليه فشهدوا بفضله وسعة إطلاعه ورسوخه في علم اللغة،
ثم انتقل إلى منزل بسويقة اللالا، وذلك في أوائل سنة تسع وثمانين فأقبل عليه أكابر تلك الخطة
وأعيانها، ورغبوا في معاشرته لأنه كان لطيف الشكل والذات، حسن الصفات، بشوشاً بسوماً وقوراً
محتشماً، وكان يعتم مثل أهل مكة عمامة منحرفة بشاش أبيض ولها عذبة مرخاة على قفاه ولها حبكة
وشراريب حرير طولها قريب من متر، وكان ربعة نحيف البدن، ذهبي اللون، متناسب الأعضاء،
معتدل اللحية، قد وخطه الشيب في أكثرها، مترفاً في ملبسه، مستحضراً للنوادر والمناسبات، ذكياً
فطناً، واسع الحفظ، عارفاً باللغة التركية والفارسية، فاستأنس به أهل تلك الخطة وأحبوه، وصار
يعطيهم ويفيدهم بفوائد، ويجيزهم بقراءة أوراد وأحزاب، فتناقلوا خبره وحديثه، فأقبل عليه الناس
منكل جهة فشرع في إملاء الحديث على طريق السلف في ذكر الأسانيد والرواة والمخرجين من
حفظه على طرق مختلفة، وكل من قدم عليه يملي عليه الحديث المسلسل بالأولية برواته ومخرجيه
ويكتب له سنداً بذلك، وأجازه بسماع الحاضرين فيعجبون من ذلك، ثم إن بعضاً من أفاضل علماء
الأزهر ذهبوا إليه وطلبوا منه إجازة فقال لهم: لا بد من قراءة أوائل الكتب، واتفقوا على الاجتماع
بجامع شيخون بالصليبة كل يوم اثنتين وخميس من كل جمعة، فشرع في صحيح البخاري، وصار
يملئ عليهم بعد قراءة شيء من الصحيح حديث المسلسلات أو فضائل الأعمال ويسرد رجال سنده
ورواته من حفظه، ويتبعه بأبيات من الشعر كذلكن فيتعجبون من ذلك فازداد شأنه وعظم قدره
واجتمع عليه أهل تلك النواحي وغيرها من العامة والأكابر والأعيان، والتمسوا منه تبيين المعاني،
فانتقل من الرواية إلى الدراية، وصار درساً عظيماً، وازدادت شهرته، وأقبل الناس من كل ناحية
لسماعه ومشاهدة ذاته، ودعاه كثير من الأعيان إلى بيوتهم وعملوا من أجله ولائم فاخرة، فيذهب إليهم
مع خواص الطلبة والمقرئ والمستملي وكاتب الأسماء، فيقرأ لهم شيئاً من الأجزاء الحديثية كثلاثيات
البخاري أو الدارمي أو بعض المسلسلات بحضور الجماعة، وصاحب المنزل وأصحابه وأحبابه
وأولاده، وبناته ونسائه من خلف الستائر، وبين أيديهم مجامر البخور بالعنبر والعود مدة القراءة، ثم
يجتمعون كذلك بالصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النسق المعتاد، ويكتب الكاتب أسماء
الحاضرين والسامعين حتى النساء والصبيان والبنات واليوم والتاريخ، ويكتب تحت ذلك صح ذلك
وهذه كانت طريقة المحدثين في الزمن السابق، وطلب إلى الدولة العلية في سنة أربع وتسعين،
فأجاب ثم امتنع وطار صيته في الآفاق، وكاتبه ملوك النواحي من تركيا والحجاز والهند واليمن
والشام والبصرة