للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما فتكات هذا السلطان وما نقم من أفعاله فلا تسأل عن ذلك، فإنه كان من تواضعه

وإنصافه ورفقه بالمساكين وكرمه الخارق للعادة كثير التجاسر على إراقة الدماء، لا يخلو بابه

عن مقتول إلا في النادر، كان يعاقب على الصغيرة والكبيرة، ولا يحترم أحداً من أهل العلم

والصلاح والشرف، وفي كل يوم يرد عليه من المسلسين والمغلولين والمقيدين مئون، فمن كان

للقتل قتل أو للعذاب عذب أو للضرب ضرب.

فمن ذلك قتله لأخيه مسعود خان، أمه كانت بنت السلطان علاء الدين الخلجي، وكان

من أجمل الناس فاتهمه بالقيام عليه، وسأله عن ذلك، فأقر خوفاً من العذاب، فإنه من أنكر

ما يدعيه عليه يعذب، فيرى الناس أن القتل أهون من العذاب، فضرب عنقه في وسط

السوق وبقي مطروحاً هنالك ثلاثة أيام، وكانت أم هذا المقتول قد رجمت في ذلك الموضع

قبل ذلك بسنتين لاعترافها بالزنا.

ومن ذلك أنه عين فرقة من العسكر تتوجه لقتال الكفار ببعض الجبال المتصلة بحوز دهلي،

فخرج مظم العسكر بقائده وتخلف قوم منهم، فكتب القائد إليه يعلمه بذلك، فأمر أن يطاف

بالمدينة ويقبض على من وجد من أولئك المتخلفين، ففعل ذلك وقبض على ثلاثمائة وخمسين

منهم، فأمر بقتلهم جميعاً فقتلوا.

ومن ذلك أنه أراد أن يستخدم الشيخ شهاب الدين الجامي الذي كان من كبار المشايخ،

فشافهه بذلك في مجلسه العام فامتنع الشيخ من الخدمة، فغضب عليه وأمر بنتف لحيته

ونفاه إلى دولت آباد، فأقام بها سبعة أعوام، ثم بعث إليه وأكرمه وأذن له بالإقامة في

الحضرة، ثم بعث إليه بعد مدة من الزمان، فامتنع من إتيانه وقال: لا أخدم ظالماً، فقيده

بأربعة قيود وغل يديه، وأقام كذلك أربعة عشر يوماً لا يأكل ولا يشرب، ثم أمر أن يطعم

الشيخ خمسة أسيار من العذرة، فمدوه على ظهره وفتحوا فمه بالكلبتين وحلوا العذرة

وسقوه ذلك، ثم ضرب عنقه.

ومن ذلك أنه أمر فقيهين من أهل السند أن يمضيا مع أمير عينه إلى بعض البلاد وقال

لهما: سلمت أحوال البلاد والرعية لكما ويكون هذا الأمير معكما يتصرف بما تأمرانه به،

فقالا له: إنما نكون كالشاهدين عليه ونبين له وجه الحق ليتبعه، فقال لهما: إنما قصدتما أن

تأكلا أموالي وتضيعاها وتنسبا ذلك إلى هذا التركي الذي لا معرفة له، فقالا: حاشا لله!

ما قصدنا هذا، فقال: إذهبوا بهما إلى النهاوندي- وكان الموكل بالعذاب- وقال لزبانيته:

أذيقوهما بعض شيء، فألقيا على أقفائهما، وجعل على صدر كل واحد منهما صفيحة

حديد محماة، ثم قلعت بعد هنيهة فذهب بلحم صدورهما، ثم أخذ البول والرماد فجعل

على تلك الجراحات، فأقرا على أنفسهما أنهما لم يقصدا إلا ما قاله السلطان واعترفا عند

القاضي، فسجل على العقد وكتب فيه أن اعترافهما كان من غير إكراه وإجبار فقتلا.

ومن أعظم ما نقم عليه إجلاؤه لأهل دهلي عنها وسبب ذلك أنهم كانوا يكتبون بطائق

فيها شتمه وسبه ويكتبون عليها: وحق رأس السلطان ما يقرؤها غيره! ويرمون بها في

القصر ليلاً، فإذا فضها وجد فيها شتمه وسبه، فعزم على تخريب دهلي واشترى من أهلها

جميعاً دورهم ومنازلهم ودفع لهم ثمنها، وأمرهم بالانتقال إلى دولت آباد، فأبوا ذلك فنادى

مناديه أن لا يبقى بها أحد بعد ثلاث، فانتقل معظمهم واختفى بعضهم في الدور، فأمر

بالبحث عمن بقي بها فوجد عبيده بأزقتها رجلين أحدهما مقعد والآخر أعمى، فأمر

بالمقعد فرمى بالمنجنيق، وأمر أن يجر الأعمى من دهلي إلى دولت آباد مسيرة أربعين يوماً،

فتمزق في الطريق وقضى نحبه، ولما فعل ذلك خرج أهلها جميعاً وتركوا أثقالهم وأمتعتهم،

وبقيت المدينة خاوية على عروشها، ثم كتب إلى أهل البلاد أن ينتقلوا إلى دهلي ليعمروها،

فخرجت بلادهم ولم تعمر دهلي لاتساعها وضخامتها، وذلك قليل من كثير من فتكاته

نقلتها من كتاب الرحلة للشيخ محمد بن بطوطة المغربي الرحالة، وهو قد دخل الهند في

سنة أربع وثلاثين وسبعمائة فأكرمه محمد شاه وولاه القضاء بمدينة دهلي، ولابن بطوطة

قصيدة في مدح السلطان، منها قوله:

<<  <  ج: ص:  >  >>