للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عند

الله أتقاكم" ومن هناك شرع سبطه إسحاق ابن أفضل، كما في مقالات الطريقة.

وكان رحمه الله أحد أفراد الدنيا بفضله وآدابه وعلمه وذكائه وفهمه وسرعة حفظه، اشتغل بالدرس

والإفادة وله خمس عشرة سنة فدرس وأفاد، حتى صار في الهند العلم المفرد، وتخرج عليه الفضلاء

وقصدته الطلبة من أغلب الأرجاء، وتهافتوا عليه تهافت الظمان على الماء، هذا وقد اعترته

الأمراض المؤلمة وهو ابن خمس وعشرين فأدت إلى المراق والجذام والبرص والعمي، ونحو ذلك

حتى عد منها أربعة عشر مرضاً مفجعاً، ومن ذلك السبب فوض تولية التدريس في مدرسته إلى

صنويه رفيع الدين وعبد القادر، ومع ذلك كان يدرس بنفسه النفيسة أيضاً، ويصنف ويفتي ويعظ،

ومواعظه كانت مقصورة على حقائق التنزيل في كل أسبوع يوم الثلاثاء، وكان في آخر عمره لا

يقدر أن يقعد في مجلس ساعة فيمشي بين مدرستيه القديمة والجديدة ويشتغل عليه خلق كثير في ذلك

الوقت فيدرس ويفتي ويرشد الناس إلى طريق الحق، وكذلك يمشي بين العصر والمغرب ويذهب إلى

الشاعر الذي بين المدرسة وبين الجامع الكبير، فيتهادى بين الرجلين يميناً وشمالاً، ويترقب الناس

قدومه في الطريق ويستفيدون منه في مشكلاتهم، ومن تلك الأمراض المؤلمة فقدان الاشتهاء إلى حد

يقضي أياماً وليالي لا يذوق طعم الغذاء حتى صار الأكل غباً بطريق النوبة كالحمى صر به في

تقريظه على المناقب الحيدرية قال فيه: ويعتذر من التقصير في التقريظ بأعذار صادقة وأمراض

سابقة ولاحقة حتى أدت إلى فقدان الغذاء بالمرة وصار الأكل غباً بطريق النوبة كالحمى لغلبة المرة

وتساقطت القوى واختلت الحواس وتهاترت الأعضاء والعظام والأضراس إلى غير ذلك، وقال في

كتابه إلى أمير حيدر بن نور الحسنين البلكرامي: وإن سألتم عن حال هذا المحب فهو في سقم

واصب ليلاً ونهاراً وكرب يزعجه سراً وجهاراً وقرار زائل وقلق حاصل، وذلك لاجتماع أمراض،

كل منها بانفراده يكفي لإزعاج الرجل وإكماده منها: قبض البواسير واحتباس الرياح في المعدة

والأمعاء، ومنها فقدان الاشتهاء إلى حد يقضي أياماً وليالي لا يذوق طعم الغذاء، ومنها صعود الأبخرة

إلى القلب فيحاكي حالته الانزهاق والاختناق وربما تصعد إلى الدماغ، فتحدث شقيقة ثاقبة وصداعاً

لذاعاً كأنها ضربات الدقاق، وإلى الله المشتكى وهو المستعان، فهذه لا يسع النطق ببنت شفة فضلاً

عن إملاء كتاب أو إنشاء صحيفة خطاب إلى غير ذلك.

ولعلك تتعجب أنه كان مع هذه الأمراض المؤلمة والأسقام المفجعة لطيف الطبع، حسن المحاضرة،

جميل المذاكرة، فصيح المنطق، مليح الكلام، ذا تواضع وبشاشة وتودد، لا يمكن الإحاطة بوصفه

ومجالسته هي نزهة الأذهان والعقول بما لديه من الأخبار التي تنشف الأسماع والأشعار المهذبة

للطباع والحكايات عن الأقطار البعيدة وأهلها وعجائبها بحيث يظن السامع أنه قد عرفها بالمشاهدة

ولم يكن الأمر كذلك، فإنه لم يعرف غير كلكته، ولكنه كان باهر الذكاء، قوي التصور، كثير البحث

عن الحقائق، فاستفاد ذلك بوفود أهل الأقطار البعيدة، إلى حضرة دهلي، ولأنه قد صنف الناس في

الأخبار مصنفات يستفيد بها مما يقرب من المشاهدة، وكان الناس يقصدونه ليستفيدوا من علمه

والأدباء ليأخذوا من أدبه ويعرضوا عليه أشعارهم، والمحاويج يأتونه ليشفع لهم عند أرباب الدنيا

ويواسيهم بما يمكنه، وكرمه كلمة إجماع، والمرضى يلوذون به لمداواتهم، وأهل الجذب والسلوك

يأتونه ليقتبسوا من أشعة أنواره، وغرباء الديار من أهل العلم والمشيخة ينزلهم في منزله ويفضل

عليهم بما يحتاجون إليه ويسعى في قضاء أغراضهم ونيل مطالبهم، وإذا جالسه منحرف الأخلاق أو

من له في المسائل الدينية بعض شقاق جاء من سحر بيانه بما يؤلف بين الماء والنار ويجمع بين

الضب والنون فلا يفارقه إلا وهو عنه راض.

قال الشيخ محسن بن يحيى الترهتي في اليانع الجني: إنه قد بلغ من الكمال والشهرة بحيث ترى

الناس في مدن أقطار الهند يفتخرون باعتزائهم إليه بل بانسلاكهم في سمط من ينتمي إلى أصحابه.

قال: ومن سجاياه الفاضلة الجميلة التي لا يدانيه عامة أهل زمانه قوة عارضته لم يناضل أحداً إلا

أصاب غرضه وأصمى رميته وأحرز خصله، ومن ذلك براعته

<<  <  ج: ص:  >  >>