للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

بالرواية، يعالجونها معالجة دقيقة، يفاضلون بينها، يختارون أفصحها أو أبلغها أو أسلمها أو أشهرها أو أوفقها للذوق، ويفحصونها بالنقد والتصويب معتمدين في ذلك على الألفاظ ومدى موافقتها للسياق، أو على المعني ومدي ماله من أهمية وقيمة، أو على الحس الموسيقي إذا كان في الرواية ما يؤدي إلى ضعف في موسيقي الشعر دون ضرورة. أما أصحاب هذا المنهج فإنهم يهتمون بالرواية ولكن ليس من هذه الوجهة التي نجدها عند الإبداعيين، وإنما من وجهة علمية بحتة، ينظرون إليها من خلال اللغة والإعراب، يستعرضونها إعرابها في أوجهها المختلفة أو تفسيرها لغويًا وما يتبع ذلك من تصريف واشتقاق ووزن.

ورابع هذه الأمور أنه إذا كان الإبداعيون يهتمون بالمعني كثيرًا، ويبتكرون له أكثر من وجه ويعرضون ذلك في أسلوب أدبي فيه فنيه وجمال يثيران المتعة فان أصحاب هذا المنهج العلمي لا يهتمون بالمعني كثيرًا، وإذا بدر منهم شيء من اهتمام فإنما ينصب على ربطه بالإعراب وفق تصورهم النحوي في شيء من التعليلات النحوية والمنطقية فالمعني عند أصحاب هذا المنهج لا وجود له إلا إذا كان له صلة بالإعراب، فإن لم تكن هذه الصلة تأت شروحهم خالية من إيراده، مكتفين في ذلك بما أثاروه من قضايا نحوية ولغوية، وطبيعي إذا كان هذا دأبهم أن تأتي شروحهم خالية من النواحي البلاغية التي تبرز المعاني وتكشفها، فهم في هذا اعلي النقيض من أصحاب المنهج الإبداعي الذين نحد في شروحهم معالجات متفاوتة للبلاغة وفنونها المختلفة وفق اهتمامهم بالمعاني وتوضيحها.

هذه هي معايير المنهج العلمي وصفاته عرضناها من خلال هذه الموازنة بصفات المنهج الإبداعي ومعاييره قصدًا إلى كشفها وإيضاحها، لما للمنهجين من تباين واختلاف. ولعل أظهر شارح من شراح الحماسة يمكن أن ينطبق عليه هذا المنهج بجميع الصفات والمعايير التي أوضحاها هو أبو الفتح عثمان بن جني المتوفى سنة ٣٩٢ هـ، وذلك في كتابية" التنبيه على شرح مشكلات الحماسة" و"المبهج في شرح أسماء شعراء الحماسة" ويشاركه في هذا المنهج أبو البقاء العكبري المتوفى سنة ٦١٦ هـ في كتابه" إعراب الحماسة" غير أنه لا يدخل في الفترة التي حددناها لدراسة

<<  <   >  >>