وهو "يريد أنه أرواها فكأنه سقاها نهلاً وعللاً بما يكون الري" ثم انتهى إلى الوجه الذي رآه فقال: "وعندي فيه وجه آخر، ألا ترى أنك إذا قلت: نهلت إبلي من بئر فلان بهذا كلام تام ثم تقول وعلّت، فجائز أن تكون علّت منها أو من غيرها، وكذا هذا الرجل نهلت قناته من ظهر الفارس، وعلّت من غيره، أي لم يكن بلائي مقصوراً على طعنة واحدة وهذا واضح".
وكذلك ما جاء عنه في بيت ابن زيّابة القائل:
إنك يا عمرو وترك الندى ... كالعبد اذ قيد أجماله
فقد نقل عن ابن السكيت معنى له قال:"قال ابن السكيت: أنت كالعبد اقتصر على موضع يرعى به ولا يتعزب بابله" ولكنه لم يأخذ بهذا المعنى الذي عرضه ابن السكيت على ظاهر اللفظ، وانما أورد للبيت معنى آخر قال:"عندي أنه غير ممتنع أن قوله: "وترك الندى" معناه أنك وبخلك، فان من ترك الندى فقد أخذ البخل يقول: انك وبخلك وحبسك مالك كالعبد قّيد أجماله فلا يبرحه منها بعير وكذلك أنت قّيدت مالك فلا يبرحك".
فهذان المثالان وغيرهما مما جاء في عمل النمري ينأيان به عن المنهج الالتزامي النقلي الذي رأيناه أن من أهم صفاته عرض آراء السابقين بلا أدنى تدخل وبلا مساس لجوهر القول أو الرأي ولم يكن النمري بهذه الصفة بل كان يعرض رأي غيره ثم يعرض رأيه المخالف له، صحيح أنه لم يكن يصرح باعتراضه على ما يعرضه من آراء السابقين، ولكن إيراده رأيه في ذيل ما يعرضه لهم يدل ضمناً على أنه يريد من قارئة أن يأخذ به. إن السمة الوحيدة في عمله التي تشبه سمات المنهج الالتزامي النقلي تتمثل في أنه كان ينسب الأقوال إلى أصحابها، وهي سمة تعد من أخص سمات هذا المنهج، على نحو ما نوَّهنا به من قبل حين عرضنا لمناهج شراح الشعر بالمناقشة والتوضيح.