نقل شرح الشعر من مقصده التثقيفي إلى مقصده التعليمي، ومن ثم كانت مناهج شراح الحماسة في جملتها مناهج تعليمية تشمل دروس النحو واللغة والبلاغة والنقد والأخبار والأيام والأنساب، على تفاوت في جميع ذلك، وهو تفاوت ينجم في المقام الأول عند مقدرة الشارح وحذقه في عنصر من هذه العناصر.
وفوق ما وضحناه يمكن القول بأن الثقافة المكونة لشرح الشعر وفهمه ونقده حين بدأت شروح الحماسة قد توسعت كثيرًا، ففي النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وهو الزمن الذي نرجحه لبدء شروح الحماسة كانت أعمال العلماء قد تعددت عبر أجيال عدة، وهي أعمال شملت الكثير من علوم العربية من لغة ونحو وبلاغة ورواية وأخبار تاريخية، وكان من الطبيعي أن تسهم هذه الأعمال المتشبعة في علو ثقافة هؤلاء الشراح وارتقائها، كما أن هذه الثقافة ظلت تنمو وتتطور في خلال تواتر شروح الحماسة، وتتابعها عبر القرون الرابع والخامس والسادس، وقد أعان هذا على التطور الملحوظ الذي برز بجلاء عند بعض هؤلاء الشراح.
تلك هي حركة شرح الشعر وتطوره حتى ظهور شروح حماسة ابي تمام، حاولنا أن نعرض لها في إيجاز وتركيز ممهدين بذلك لما نعقده من فصول تمثل صلب هذا البحث وموضوعه، متوخين من ذلك أن نؤكد أن شروح الحماسة تعد جزءًا من شرح الشعر عامة، فهي صورة منه، وممثلة له، بل إن جل الذين تصدوا لشرح ديوان الحماسة لم يكتفوا بما شرحوه منها، وإنما أسهموا إسهامات طيبة في شرح كثير من الدواوين والمختارات سواء في ذلك دواوين شعر الجاهلية والإسلام ومختاراتهما أو دواوين الشعر في العصور التي تلتهما.
ولما كان عملنا مقصورًا على شروح الحماسة إلى نهاية القرن السادس الهجري، فإن هذا يقتضي أن نعطي صورة عامة عن هذه الشروح منذ أن بدأت وإلى عصرنا هذا الحديث، حتى نقف على مدى الجهود التي بذلت من قبل العلماء في خدمة هذا الاختيار الفذ الذي خلفه أبو تمام. كما ينبغي أن نوضح ما يتصل بعملنا من هذه الشروح، وهذا بطبيعة الحال لا يتضح إلا من خلال ثبت نقدمه لهذه الشروح، وذلك على النحو التالي: