المسألة بوضوح فقال إنّ المقصود ب «أنّ الكلام الفصيح هو الظاهر البين» أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج فهمها إلى استخراج من كتاب لغة، وإنمّا كانت بهذه الصفة؛ لأنّها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر دائرة فى كلامهم، وإنّما كانت مألوفة الاستعمال دائرة فى الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها، وذلك أنّ أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها وسبروا وقسموا فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه ونفوا القبيح منها فلم يستعملوه، فحسن الألفاظ سبب استعمالها دون غيرها واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها، فالفصيح من الألفاظ هو الحسن.
فان قيل: من أى وجه علم أرباب النظم والنثر الحسن من الألفاظ حتى استعملوه، وعلموا القبيح منها حتى نفوه ولم يستعملوه؟
قيل لهم: إنّ هذا من الأمور المحسوسة التى شاهدها فى نفسها، لأنّ الألفاظ داخلة فى حيز الأصوات، فالذى يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن، والذى يكرهه وينفر عنه هو القبيح. ألا ترى أنّ السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشحرور ويميل إليهما، ويكره صوت الغراب وينفر عنه، وكذلك يكره نهيق الحمار ولا يجد ذلك فى صهيل الفرس فالألفاظ جارية هذا المجرى فانه لا خلاف فى أنّ لفظة «المزنة» و «الديمة» حسنة يستلذها السمع، وأنّ لفظة «البعاق» قبيحة يكرهها السمع. وهذه اللفظات الثلاث من صفة، وهى تدل على معنى واحد، ومع هذا فانك ترى لفظتى «المزنة» و «الديمة» وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال، وترى لفظ «البعاق» وما جرى مجراه متروكا لا يستعمل، وإن استعمل فانما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير سليم.
لقد ثبت أنّ الفصيح من الألفاظ هو «الظاهر البين»، وإنّما كان ظاهرا بينا؛ لأنّه مألوف الاستعمال، وإنّما كان مألوف الاستعمال لمكان حسنه، وحسنه مدرك بالسمع، والذى يدرك بالسمع إنما هو اللفظ لأنه صوت يأتلف عن مخارج الحروف، فما استلذه السمع منه فهو الحسن وما كرهه فهو القبيح، والحسن هو الموصوف بالفصاحة والقبيح غير