مصوّرا ذلك أحسن تصوير:«والبلاء والداء العياء أن هذا الإحساس قليل فى الناس حتى أنّه ليكون أن يقع للرجل من هذه الفروق والوجوه فى شعر يقوله أو رسالة يكتبها الموقع الحسن ثم لا يعلم أنه قد أحسن فأما الجهل بمكان الإساءة فلا تعدمه، فلست تملك إذن من أمرك شيئا حتى تظفر بمن له طبع إذا قدحته ورى، وقلب إذا أريته رأى، فأما وصاحبك من لا يرى ما تريه ولا يهتدى للذى تهديه فانت رام معه فى غير مرمى، معنّ نفسك فى غير جدوى. وكما لا تقيم الشعر فى نفس من لا ذوق له، كذلك لا تفهم هذا الشأن من لم يؤت الآلة التى بها يفهم. إلّا أنّه إنّما يكون البلاء إذا ظن العادم لها أنّه أوتيها وأنّه ممن يكمل للحكم ويصح منه القضاء فجعل يقول القول لو علم غيّه لاستحيا منه، فأما الذى يحس بالنقص من نفسه ويعلم أنّه قد علم علما أوتيه من سواه فأنت منه فى راحة وهو رجل عاقل قد حماه عقله أن يعدو طوره وأن يتكلف ما ليس بأهل له»(١).
لقد ضمت كتب البلاغة البحث فى الفصاحة والمعانى والبيان والبديع والسرقات والذوق الأدبى والإحساس الروحانى والعاطفة، وليس هناك ما يمنع أن تدرس الكتب الحديثة هذه الفنون ويعنى بها كما فعل القدماء، ويظل مصطلح «البلاغة» جامعا لها كما كان، لأنّ أى مصطلح من المصطلحات الجديدة التى أسرف بعضهم فى إشاعتها والتعصب لها لا يجمعها ويوحد بينها، وبذلك نحتفظ بالمصطلح القديم وما ينضوى تحته من فنون قديمة
وحديثة، وللباحثين الجدد الحرية الواسعة فى معالجتها ورسم المناهج التى تكفل فائدتها وتطورها، ما دامت الأصول ثابتة والأسس متينة راسخة.