ولذلك فليست العمدة فى معرفة قواعد النحو وحدها ولكن فيما تؤدى إليه هذه القواعد والأصول. وقد يكون
أحدنا لا يعرف التسميات الدقيقة لموضوعات النحو، ولكنه يعرف الفروق بينها ويحس بمعانيها حينما يسمعها، شأنه فى ذلك شأن البدوى الذى عاش بعيدا عن المصطلحات وما تعنى به كتب النحو غير أنه كان يفهم ما يسمع ويميز بين أسلوب وآخر.
وليست المزية باللغة ومعرفتها، لأنّ ذلك لا يؤدى إلى التفاوت بين الكلام، ولا من أجل العلم بأنفس الفروق والوجوه فنستند إلى اللغة، ولكن للعلم بمواضعها وما ينبغى أن يصنع فيها. وليست بسلامة الحروف، وإنّما بالنظم الذى يعطى الكلمات والإعراب معنى دقيقا.
والنظم مراتب، فمنه ما لا نرى المزية فيه إلّا بعد قراءة القطعة الشعرية كقول البحترى:
بلونا ضرائب من قد نرى ... فما إن رأينا لفتح ضريبا
هو المرء أبدت له الحادثا ... ت عزما وشيكا ورأيا صليبا
تنقّل فى خلقى سؤدد ... سماحا مرجّى وبأسا مهيبا
فكالسيف إن جئته صارخا ... وكالبحر إن جئته مستثيبا
ففى هذه الأبيات تلاحقت الصور وضم بعضها إلى بعض.
ومنه ما يهجم الحسن دفعة واحدة حتى يعرف من البيت الواحد مكان الشاعر من الفضل وموضعه من الحذق، ويشهد له بالفضل حتى يعلم أنّ البيت من قبل شاعر فحل وأنّه خرج من تحت يد صناع.
ومن النظم ما يتحد فى الوضع ويدق فيه الصنع وذلك أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها فى بعض ويشتد ارتباط ثان منها بأول، وأن يحتاج فى الجملة إلى أن توضع فى النفس وضعا واحدا وأن يكون الحال فيها حال البانى يضع بيمينه ههنا فى حال ما يضع بيساره هناك. ومنه ما لا يحتاج إلى فكر وروية لكى ينتظم، بل سبيله فى ضم بعضه إلى بعض سبيل من عمد إلى لآل فخرطها فى سلك لا يبغى أكثر من أن يمنعها التفرق، وكمن نضد أشياء