للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإذ قد عرفت هذه التفاصيل، فاعلم أن ما كان من التركيب في صورة بيت امرئ القيس، فإنما يستحق الفضيلة من حيث اختصار اللفظ وحسن الترتيب فيه، لا لأن للجمع فائدة في عين التشبيه. ونظيره أنّ للجمع بين عدّة تشبيهات في بيت كقوله (١): [من الوافر]

بدت قمرا، وماست خوط بان، ... وفاحت عنبرا، ورنت غزالا

مكانا من الفضيلة مرموقا، وشأوا ترى فيه سابقا ومسبوقا لا أنّ حقائق التشبيهات تتغير بهذا الجمع، أو أن الصور تتداخل وتتركّب وتأتلف ائتلاف الشكلين يصيران إلى شكل ثالث. فكون قدّها كخوط البان، لا يزيد ولا

ينقص في شبه الغزال حين ترنو منه العينان. وهكذا الحكم في أنها تفوح فوح العنبر، ويلوح وجهها كالقمر.

وليس كذلك بيت بشار: «كأنّ مثار النقع»، لأن التشبيه هناك كما مضى مركّب وموضوع على أن يريك الهيئة التي ترى عليها النّقع المظلم، والسيوف في أثنائه تبرق وتومض وتعلو وتنخفض، وترى لها حركات من جهات مختلفة كما يوجبه الحال حين يحمى الجلاد، وترتكض بفرسانها الجياد.

كما أن قول رؤبة مثلا (٢): [من الرجز]

فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنّها في الجلد توليع البهق


(١) البيت في ديوانه ١/ ١٨٤، وهو من قصيدة قالها في مدح أبي الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني مطلعها:
بقائي شاء ليس هم ارتحالا ... وحسن الصبر زموا لا الجمالا
تولوا بغتة فكأن بينا ... تهيبني ففاجأني اغتيالا
المعنى: الخوط: القضيب وجمعه خيطان ككوز وكيزان، والعنبر: ضرب من الطيب. فهو يقول:
بدت هذه المحبوبة قمرا في حسنها ومالت مشبهة غصنا في تثنيها وحسن مشيها، وفاحت مشبهة عنبرا في طيب ريحها ورنت مشبهة غزالا في سواء مقلتها وهذا من أحسن التشبيه لأنه جمع أربع تشبيهات في بيت واحد. والبيت في التبيان للعكبري على شرح ديوان المتنبي ٢/ ١٨، والإيضاح ص ٢٢٩، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي.
(٢) البيت في ديوانه ص ١٠٤ من قصيدة في وصف المفازة مطلعها:
وقاتم الأعماق حاوي المخترق ... مشتبه الأعلام لمّاع الخفق
يكل وفد الريح من حيث انخرق ... شأز بمن عوّه جذب المنطلق
البلق يعني هنا: البياض، وأصله سواد وبياض، والبهق: بياض يعتري الجسم بخلاف لونه وهو دون البرص، والتوليع، أن يكون في بياض بلقه استطالة وتفرق.

<<  <   >  >>