أنف سليم قد وضع الشعر عليه حدّه فجدعه، واسم رفيع قلب معناه حتى حطّ به صاحبه ووضعه، كما قال:[من الكامل]
يا حاجب الوزراء! إنّك عندهم ... سعد، ولكن أنت سعد الذابح
ومن العجيب في ذلك قول القائل في كثير بن أحمد:[من مخلع البسيط]
لو علم الله فيه خيرا ... ما قال:«لا خير في كثير»
فانظر من أي مدخل دخل عليه، وكيف بالهوينا هدى البلاء إليه؟ وكثير هذا هو الذي يقول فيه الصاحب:[من الطويل] ومثل كثير في الزّمان قليل فقد صار الاسم الواحد وسيلة إلى الهدم والبناء، والمدح والهجاء، وذريعة إلى التزيين والتهجين.
ومن عجيب ما اتفق في هذا الباب قول ابن المعتزّ في ذمّ القمر، واجتراؤه بقدرة البيان على تقبيحه، وهو الأصل والمثل، وعليه الاعتماد والمعوّل في تحسين كل حسن، وتزيين كلّ مزيّن، وأوّل ما يقع في النفوس إذا أريد المبالغة في الوصف بالجمال، والبلوغ فيه غاية الكمال، فيقال:«وجه كأنه القمر»، و «كأنه فلقة قمر»، ذلك لثقته بأنّ هذا القول إذا شاء سحر، وقلب الصور، وأنه لا يهاب أن يخرق الإجماع، ويسحر العقول ويقتسر الطباع، وهو (١): [من الكامل]
يا سارق الأنوار من شمس الضّحى ... يا مثكلي طيب الكرى ومنغّصي
أمّا ضياء الشمس فيك فناقص ... وأرى حرارة نارها لم تنقص
لم يظفر التشبيه منك بطائل، ... متسلّخ بهقا كلون الأبرص
وقد علم أن ليس في الدنيا مثلة أخزى وأشنع، ونكال أبلغ وأفظع، ومنظر أحق بأن يملأ النفوس إنكارا، ويزعج القلوب استفظاعا له واستنكارا، ويغري الألسنة بالاستعاذة من سوء القضاء، ودرك الشقاء، من أن يصلب المقتول ويشبّح في الجذع، ثم قد ترى مرثية أبي الحسن الأنباري لابن بقيّة حين صلب، وما صنع فيها من السّحر، حتى قلب جملة ما يستنكر من أحوال المصلوب إلى خلافها، وتأوّل
(١) الأبيات تحت عنوان «سارق الأنوار»، وسارق الأنوار هنا: القمر، والبهق بالفتح: بياض دقيق يعتري ظاهر البشرة. راجع ديوان ابن المعتز ص ٢٨٦.