كان الأمر كذلك احتيج إلى شيئين يتعلّق الإثبات والنفي بهما، فيكون أحدهما مثبتا والآخر مثبتا له وكذلك يكون أحدهما منفيّا والآخر منفيّا عنه. فكان ذانك الشيئان:
المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل. وقيل للمثبت وللمنفي «مسند» و «حديث»، وللمثبت له والمنفيّ عنه «مسند إليه» و «محدّث عنه». وإذا رمت الفائدة أن تحصل لك من الاسم الواحد أو الفعل وحده، صرت كأنّك تطلب أن يكون الشيء الواحد مثبتا ومثبتا له، ومنفيّا ومنفيّا عنه، وذلك محال.
فقد حصل من هذا أنّ لكل واحد من حكمي الإثبات والنفي حاجة إلى أن تقيّده مرّتين، وتعلّقه بشيئين.
تفسير ذلك: أنك إذا قلت: «ضرب زيد»، فقد قصدت إثبات الضرب لزيد.
فقولك:«إثبات الضرب»، تقييد للإثبات بإضافته إلى الضرب ثم لا يكفيك هذا التقييد حتى تقيّده مرّة أخرى فتقول:«إثبات الضرب لزيد»، فقولك:«لزيد»، تقييد ثان وفي حكم إضافة ثانية. وكما لا يتصوّر أن يكون هاهنا إثبات مطلق غير مقيّد بوجه أعني أن يكون إثبات ولا مثبت له ولا شيء يقصد بذلك الإثبات إليه، لا صفة ولا حكم ولا موهوم بوجه من الوجوه كذلك لا يتصوّر أن يكون هاهنا إثبات مقيّد تقييدا واحدا، نحو إثبات شيء فقط، دون أن تقول:«إثبات شيء لشيء»، كما مضى من إثبات الضرب لزيد. والنفي بهذه المنزلة، فلا يتصوّر نفي مطلق، ولا نفي شيء فقط، بل تحتاج إلى قيدين كقولك:«نفي شيء عن شيء».
فهذه هي القضية المبرمة الثابتة التي تزول الرّاسيات ولا تزول. ولا تنظر إلى قولهم:«فلان يثبت كذا»، أي: يدّعي أنه موجود، و «ينفي كذا»، أي: يقضي بعدمه كقولنا: «أبو الحسن يثبت مثال جخدب بفتح الدال، وصاحب الكتاب ينفيه»، لأنّ الذي قصدته هو الإثبات والنفي في الكلام.
ثم اعلم أن في الإثبات والنفي بعد هذين التقييدين حكما آخر: هو كتقييد ثالث، وذلك أنّ للإثبات جهة، وكذلك النفي. ومعنى ذلك: أنك تثبت الشيء للشيء مرّة من جهة، وأخرى من جهة غير تلك الأولى.
وتفسيره: أنّك تقول: «ضرب زيد»، فتثبت الضرب فعلا لزيد وتقول «مرض زيد» فتثبت المرض وصفا له، وهكذا سائر ما كان من أفعال الغرائز والطباع، وذلك في الجملة على ما لا يوصف الإنسان بالقدرة عليه، نحو: كرم وظرف وحسن وقبح وطال وقصر. وقد يتصوّر في الشيء الواحد أن تثبته من الجهتين جميعا، وذلك في