للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بدأت بالبدر وتشبيهه به في الحسن، وأخّرت تشبيهه بالأسد في الشجاعة، كان المعنى بحاله، وقوله: [من السريع]

النّشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكفّ عنم (١)

إنما يجب حفظ هذا الترتيب فيها لأجل الشّعر، فأمّا أن تكون هذه الجمل متداخلة كتداخل الجمل في الآية، وواجبا فيها أن يكون لها نسق مخصوص كالنسق في الأشياء إذا رتّبت ترتيبا مخصوصا كان لمجموعها صورة خاصّة فلا (٢).

وقد يجيء الشيء من هذا القبيل يتوهّم فيه أن إحدى الجملتين أو الجمل تنفرد وتستعمل بنفسها تشبيها وتمثيلا، ثم لا يكون كذلك عند حسن التأمل، مثال ذلك قوله: [من الطويل]

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رجوها أقشعت وتجلّت (٣)

هذا مثل في أن يظهر للمضطرّ إلى الشيء، الشديد الحاجة إليه، أمارة وجوده، ثم يفوته ويبقى لذلك بحسرة وزيادة ترح.

وقد يمكن أن يقال: «إن قولك: «أبرقت قوما عطاشا غمامة»، تشبيه مستقلّ بنفسه، لا حاجة به إلى ما بعده من تمام البيت في إفادة المقصود الذي هو ظهور أمر مطمع لمن هو شديد الحاجة، إلّا أنه وإن كان كذلك، فإن حقّنا أن ننظر في مغزى المتكلم في تشبيهه. ونحن نعلم أن المغزى أن يصل ابتداء مطمعا بانتهاء مؤيس، وذلك يقتضي وقوف الجملة الأوّلة على ما بعدها من تمام البيت.

ووزان هذا أن الشرط والجزاء جملتان، ولكنا نقول: إنّ حكمهما حكم جملة


(١) البيت للمرقش الأكبر في المفضليات، وفي لسان العرب (مادة: نشر). النّشر: الريح الطيبة، العنم: شجر لين الأغصان لطيفها يشبه به البنان كأنه بنان العذارى، واحدتها عنمة، وهو مما يستاك به، وقيل: العنم أغصان تنبت في سوق العضاه رطبة لا تشبه سائر أغصانها، حمر اللون، وقيل: هو ضرب من الشجر له نور أحمر تشبّه به الأصابع المخضوبة. [لسان العرب: عنم]. وأراد النشر مثل ريح المسك، لا يكون إلا على ذلك، لأن النشر عرض، والمسك جوهر، وقوله: والوجوه دنانير، الوجه أيضا لا يكون دينارا، إنما أراد مثل الدنانير، وكذلك قال: وأطراف الأكف عنم إنما أراد مثل العنم لأن الجوهر لا يتحول إلى جوهر آخر. [لسان العرب: نشر].
(٢) وفي نسخة زيادة لفظ (مقررة) بعد خاصة.
(٣) البيت لكثير عزة في ديوانه ص ١٠٧، وفي التبيان في المعاني والبيان ص ٢٦٨. أبرقت: جاءت ببرق، أقشعت: انقشع عنه الشيء وتقشّع غشيه ثم انجلى عنه، كالظلام عن الصبح، والهم عن القلب، والسحاب عن الجو.

<<  <   >  >>