للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لَكَ، والنَّهيُ إِنَّمَا وقعَ على الابتداء، ومَا يكونُ في معنى الابتِدَاءِ، كأنه يقول: ليس لك أن تخونَهُ وإنْ كانَ قد خانَكَ؛ كَمَا (١) لَمْ يكُنْ لهُ أن يخونك، وأَمَّا مَن عاقَبَ بمِثْلِ مَا عُوقِبَ به وأخذَ حَقَّهُ فليسَ بخائِنٍ، وإِنَّمَا الخائِنُ مَن أخذَ ما ليس لهُ، أو أكثر مِمَّا لهُ.

وقد اختَلَفَ الفُقَهَاءُ في الذي يَجْحَدُ حَقًّا عليه ويمنَعُهُ ثم يظفرُ المجحودُ بمالِ الجاحدِ قد ائتمنه عليه أو نحو ذلك، فقال قائل منهم: ليس له أن يأخذ حقه من ذلك؛ لظاهِر الحديث الذي أَوْرَدْنَاهُ: " ... ولا تَخُنْ مَن خَانَكَ".

وقال آخرون: له أن يَنْتَصِفَ مِنهُ ويأخذ مِنهُ حقَّهُ عَمَلًا بقِصَّةِ هِند: "خُذِي مِنْ مَاله مَا يَكْفِيكِ" (٢). وللفقهاء في هذه المسألة وجوهٌ واعتلالاتٌ؛ محلّها كتب الخلافيات، وإنما ذَكَرنَا هذا هنا لِمَا في مَعنَى "الضِّرَار" مِن مُدَاخَلةِ الانتصارِ بالإضرارِ مِمَّن أَضَرَّ بكَ.

والذي يَصِحُّ في النَّظَرِ ويَثبُتُ في الأصولِ أنَّهُ ليسَ لأَحَدٍ أن يَضُرَّ بأخيهِ سواءٌ أضَرَّ بهِ قبلُ أمْ لَا، إلَّا أن يَنْتَصِرَ -إن قدر- بما أُبِيحَ له من الاعتداءِ بالحَقِّ الذي له بمِثلِ مَا اعْتُدِيَ عليه، والانتِصارُ ليسَ باعتِدَاءٍ، ولا ظُلْمٍ، ولا ضَرَرٍ إذا كان على الوَجهِ الذي أباحَتهُ السُّنَّة (٣)، وكذا ليس لأَحدٍ أنْ يُضِرَّ بأَحَدٍ مِن غير الوَجهِ الذي هو الانتصار (٤) مِن حَقِّهِ، ومَن أدخَلَ على أخيهِ المُسلِم ضَرَرًا مِنهُ؛


(١) في الأصل: "ما" والتصويب من "التمهيد" (٢٠/ ١٥٩).
(٢) رواه البخاري (٣/ ٧٩ رقم ٢٢١١)، ومسلم (٣/ ١٣٣٨ رقم ١٧١٤) من حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -.
(٣) لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: ١٢٦]، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: ١٩٤] وغيرها.
(٤) في "التمهيد" (٢٠/ ١٦٠): "الانتصاف".

<<  <   >  >>