وقاله القاضي أبو بكر إنه يقع ابتداءً، فقد قرن به ما بين هذا، فقال إنه يقع ابتداءً من غير إدراك حاسة، ولم يقل إنه يقع ابتداءً على الإطلاق، وإنما قال إنه لا يحتاج في العلم به إلى إدراك حاسة من الحواس المتقدم ذكرها (١). واللَّه أعلم.
ووجه آخر، وهو أن معرفة الإنسان بمرضه وصحته لا يعم العقلاء، وإنما يختص بذلك من وجد به، وكذلك مخبر أخبار التواتر لا يعم العقلاء وإنما يقع العلم به لمن سمع بذلك الخبر دون غيره على الوجه الذي يقع به العلم. واللَّه أعلم.
وقال القاضي أبو بكر: حد العقل بعض العلوم الضرورية. وكان الشيخ أبو عبد اللَّه بن مجاهد يذهب في حده إلى أنه "مادة تعرف بها حقائق الأشياء" وأنكره أكثر شيويخنا البغداديين, لأنه إن كان أراد بقوله "مادة" أنه من جنس الأجسام والجواهر على ما يذهب إليه الفلاسفة من أنه جوهر بسيط فغير صحيح, لأن الأحكام لا تثبت بالأجسام ولا بالجواهر، ولا تكون عللًا لها, ولذلك لم يكن المتحرك متحركًا بجسم ولا جوهر، ولا الأبيض أبيض ولا الأسود أسود ولا العالم عالمًا ولا الجاهل جاهلًا، وإنما تثبت الأحكام بالأعراض التي هي علل لثبوتها.
وإن كان أراد بقوله "مادة" أنه عرض من الأعراض، فينتقض بالعلم الذي تعلم به حقائق الأشياء، فإنَّه ليس من العقل بسبيل, لأن الحيوان يعلم كثيرًا من الأشياء، فيعلم ما يتقوت به فيقصده، وما لا يتقوت به ويضره فيجتنبه، ويعلم زجر من يزجره فيزدجر, ولا يوصف لذلك أنه عاقل. فوجب أن يكون ما يختص به من يُسمى عاقلًا ويوصف بذلك في لسان العرب وهو الإنسان.
فإذا كان العقل مما يختص به الإنسان من العلوم، فقد قال القاضي أبو بكر بأنه ما يُعلم به أن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الضدين لا يجتمعان وهذا يختص بمعرفته الإنسان الذي يختص بالوصف بالعقل دون الحيوان الذي لا يوصف بذلك. وهذا الذي قاله القاضي أبو بكر في هذه المسألة وذهب إليه كثير من شيوخنا.
وأما ما حُدّ به العقل بأنه "بعض العلوم الضرورية" فعندي أنه ينتقض بخبر أخبار التواتر وما يدرك بالحواس من العلوم، فإنه بعض العلوم الضرورية، ومع ذلك فإنه