للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هجرته، وأراحوا عليه إبلهم، وأكثروا عليه التمر واللبن. فلما قدم الزبرقان ولم يجده وعلم بقصته، نادى في قومه، وركب فرسه وأخذ رمحه، وسار حتى وقف على بغيض وقومه، وطلب منهم رد الشاعر، وكاد أن يقع بين الحيين حرب. كل ذلك إكرامًا للشاعر وطمعًا في مدحه وخوفًا من هجائه١.

فإذا كان أمر الشعر بهذا الخطر للممدوحين، فهل كان ملوك الحيرة، وملوك غسان، وأشراف المدينة والطائف وساداتها وأثرياؤها، وسادات نجران واليمن، هل كان كل أولئك لا يقيدون ما يمدحون به من الشعر مع أنهم كانوا يقيدون سائر أمورهم؟

ورب معترض يقول: فما بال الشعر القديم في جاهلية الأمم الأخرى لم يكن مكتوبًا -فيما يقال- ثم نفرض أن العرب في جاهليتهم قد كتبوه؟ وما أيسر الإجابة عن هذا الاعتراض! فنحن إنما قدمنا ما قدمنا في الفصل الأول من هذا البحث لندل على أن جاهلية العرب تختلف اختلافًا واسعًا عن جاهلية الأمم الأخرى. فجاهلية تلك الأمم إنما هي الطور البدائي الساذج من حياتهم قبل أن ينتقلوا إلى طور حضاراتهم. ففي ذلك الطور البدائي كان من الطبيعي ألا يكتبوا شعرهم؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون من صور الكتابة ما يعينهم على تقييد أمورهم؛ وأما جاهلية العرب فيغنينا عن إعادة القول فيها ما قدمناه من تبيان معرفتها بالكتابة معرفة قديمة العهد، فيها شيء من الانتشار وتعدد الموضوعات والأدوات. ولذلك نعجب لقوم تكون معرفتهم بالكتابة هذه المعرفة التي بسطنا فيها القول ثم لا يقيدون شعرهم. ونحن إنما نتحدث عن تقييد بعض الشعر لا كله، حتى يستقيم لنا الاستنتاج والاستنباط ونقصد بالتقييد -كما قدمنا- مجرد الإثبات بالكتابة لأبيات أو قصائد متفرقة من الشعر، ولا نعرض الآن لذكر التدوين الشامل المقصود، فلذلك مجاله بعد صفحات من هذا الباب.


١ الأغاني ٢: ١٨٠-١٨٣.

<<  <   >  >>