للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

-٣-

الثاني: أما الدليل الثاني من هذه الأدلة العقلية الاستنباطية فمتصل أوثق الاتصال بالدليل الأول. فإذا كان الشعر المسجل لمفاخر القبائل ومحامد الأفراد له خطره وقيمته عند القبائل والأفراد الممدوحين، فقد كان له من الخطر والقيمة عند الشعراء المادحين أنفسهم ما يضارع ما كان له عند الممدوحين أو يزيد.

فقد كان هذا الشعر عند غير المتكسبين بالمدح واجبًا قوميًا تفرضه على الشاعر طبيعة ارتباطه بقبيلته، أو واجبًا أخلاقيًّا تمليه عليه مآثر سلفت من صاحبها لقبيلة الشاعر أو للشاعر نفسه. وأما المتكسبون بالشعر فقد كان هذا الشعر موردًا من موارد ارتزاقهم، أو لعله هو المورد الوحيد لرزقهم. فكان الشاعر منهم يكثر التجوال والتطواف، ويقطع على ظهر ناقته الآماد الواسعة يستسهل طيَّ المفاوز، ويستعذب تحمل المشاق والأهوال في سبيل وصوله إلى ممدوحه الذي سيجزيه عما تجشم وتكلف، ويقضي حاجته، ويكفيه رزقه. أليس عجيبًا بعد ذلك ألا يُعنَى الشاعر، وهذه قيمة الشعر عنده، بأن تحفظ الكتابة شعره أو بعضه؟ وسيشتد العجب إذا علمنا أن بعض الشعراء لم يكونوا في حاجة إلى أن يتلمسوا الوسائل البعيدة لكتابة شعرهم ويتطلبوا من يكتبه لهم؛ لأنهم كانوا هم أنفسهم يحسنون الكتابة ويتقنونها. على أنه كانت ثمة دواع تضطر حتى من لا يعرف الكتابة من الشعراء، إلى أن يستكتب من يعرفها؛ ومن أنصع الإشارات إلى ذلك ما ذكره ابن الأعرابي قال١: بلغ عمرو بن كلثوم أن النعمان بن المنذر يتوعده، فدعا كاتبًا من العرب، فكتب إليه:

ألا أبلغ النعمان عني رسالة ... فمدحك حولي وذمك قارح


١ الأغاني "دار الكتب" ١١: ٥٨.

<<  <   >  >>