للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الدقيق، ويستحق منا في هذا المجال وقفة قصيرة نلم به إلمامة سريعة.

وأول ما يلفت نظرنا من أمر هذه الحضارة الجاهلية الأخيرة أنها حضارة ظاهرية تأثرية "سلبية"، لم تبلغ من العمق أولًا ومن القوة ثانيًا ما يجعل لها طابعها الخاص الذي تتسم به، وما يبعث في حناياها الحياة القوية حتى تندفق على الحضارات الأخرى فتؤثر فيها أو تتفاعل معها. وتعليل ذلك أن هذه الحضارة في الجاهلية الأخيرة إنما انحدرت من جدولين: أولهما تليد موروث، وثانيهما طريف مقبوس.

أما الجدول الأول فهو صور مطموسة، وأطلال مدروسة، وظلال باهتة، كان يحس بها عرب هذا العصر إحساسًا غائمًا، ويسمعون بها سماعًا غامضًا، ويرون من آثارها ما لم يحسنوا الانتفاع به أو ما لم تطق حالتهم آنذاك أن تبعث فيه الحياة دافقة كما كانت. ومعالم تلك الحضارة التليدة قائمة في بلاد العرب في هذه النقوش والآثار التي اكتشف بعضها في اليمن حيث قامت دول معين وسبأ وحمير، وفي الحِجْر حيث وجدت لحيان وثمود، وفي بترا حيث قامت دولة الأنباط.

وقد أشار كثير من المعنيين بالدراسات الشرقية من الأوروبيين إلى هذه الحضارة العربية القديمة بعد استقراء النقوش واستنطاق الآثار. فقال ونكلر١ Winckler إن تاريخ الجزيرة العربية كما توضحه النقوش يظهر لنا مجموعة من الحكومات والدول المنظمة منذ أقدم القدم. وقال سايس A. H Sayce "لم يكن المسلمون الذين انطلقوا من الجزيرة العربية وفتحوا العالم المسيحي وأسسوا الممالك إلا من نسل أولئك الذين كان لهم في القدم أثر عميق في مصير الشرق"٢.

وقال هومل Hommel: "إن الحضارة العربية الجنوبية بآلهتها ومذابحها ذات البخور ونقوشها وحصونها وقلاعها لا بد أن تكون مزدهرة متحضرة منذ الألف الأول قبل الميلاد.." وقال: "إن أهمية العرب في الشرق القديم تكمن في مجال الحضارة


١ Margoliouth, Relations Between Arabs and Israelitcs prior to the Rise of Islam ٢٤.
٢ A.H. Sayce, Early Israel, ١٢٨.

<<  <   >  >>