من الحجاز"١. وقد كان علماء المدينة يتمسكون بالحديث تمسكًا كبيرًا، ويلجئون إليه -بعد القرآن- فيما يحزبهم من أمر أو يحتاجون إليه من نص، ولا يكادون يتجاوزونه إلى الاجتهاد وإبداء الرأي والفتيا. وقد ساعدهم على ذلك كثرة ما بين أيديهم من أحاديث، وبقاء الحالة الاقتصادية والاجتماعية على ما كانت عليه في عهد رسول الله ومن بعده الصحابة، أو قريبة من ذلك، فلم يصبها من التعقيد والتطور ما أصاب حياة المسلمين في العراق أو الشام، ولذلك كانوا يجدون لكل أمر من أمورهم حديثًا من أحاديث رسول الله يقضون به في ذلك الأمر.
أما الحياة في الكوفة فقد كانت على غير حياة المدينة، فقد نزل المسلمون فيها بيئة جديدة، فيها أخلاط من أجناس شتى بعضها له ماض عريق في الحضارة والحياة الفكرية والاجتماعية، ولذلك كانت حياة الكوفة، إذا قيست بحياة المدينة، معقدة، جد فيها من المسائل الاقتصادية والاجتماعية ما لم يكن معروفًا في المدينة. ولذلك اضطر علماء الكوفة حينما يعرض لهم أمر من أمور حياتهم لا يجدون فيه نصًّا واضحًا في القرآن أو الحديث إلى أن يجتهدوا ويفتوا برأيهم، وهذا الاجتهاد والإفتاء بالرأي هو "القياس". و"أصل القياس أن يُعلم حكم في الشريعة لشيء فيقاس عليه أمر آخر لاتحاد العلة فيهما، ولكنهم توسعوا في معناه أحيانًا فأطلقوه على النظر والبحث عن الدليل في حكم مسألة عرضت لم يرد فيها نص، وأحيانًا يطلقونه على الاجتهاد فيما لا نص فيه، وبعبارة أخرى جعلوه مرادفًا للرأي، ويعنون بالرأي والقياس بهذا المعنى أن الفقيه من طول ممارسته للأحكام الشرعية تنطبع في نفسه وجهة الشريعة في النظر إلى الأشياء، وتمرن ملكاته على تعرف العلل والأسباب، فيستطيع إذا عرض عليه أمر لم يرد فيه نص، أن يرى فيه رأيًا قانونيًّا متأثرًا بجو الشريعة التي ينتمي إليها، وبأصولها وقواعدها التي انطبعت.