للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فيه من طول مزاولتها، ومن أجل هذا ذموا الرأي الذي يصدر ممن ليس أهلًا للاجتهاد ... ١".

وخلاصة ذلك أنه كانت هناك مدرستان، الأولى: مدرسة الحديث، وهي في الحجاز وخاصة في المدينة، وعلى رأسها مالك بن أنس وتلاميذه. والثانية: مدرسة الرأي، وهي في العراق وخاصة في الكوفة وعلى رأسها أبو حنيفة. وتعصب علماء كل مدرسة لمدرستهم حتى لقد كاد أبو حنيفة أن يفضل أحد التابعين من علماء الكوفة على صحابي جليل هو عبد الله بن عمر، فقد قال مرة لمناظرة "إبراهيم "النخعي-كوفي" أفضل من سالم "بن عبد الله بن عمر"، ولولا فضل الصحبة لقلت علقمة أفضل من ابن عمر". وأخذ الحجازيون يطعنون على علماء الكوفة ويعيبونهم ويرموهم بالتزيد في الحديث الصحيح والإكثار من الموضوع، فقال مالك: "إذا جاوز الحديث الحرتين ضعفت شجاعته"، وكان مالك يسمي الكوفة "دار الضرب" يعني أنها تصنع الأحاديث وتضعها كما تخرج دار الضرب الدراهم والدنانير، وقال ابن شهاب: يخرج الحديث من عندنا شبرًا فيعود في العراق ذراعًا٢.

وقد سقنا ما تقدم لنخلص منه إلى أمرين؛ الأول: أن الطابع الذي يميز أهل الكوفة في الفقه أنهم "أهل الرأي"، وأنهم لا يلجئون إلى الرأي إلا إذا عرض لهم عرض لم يجدوا له نصًّا في الكتاب أو الحديث، ومعنى ذلك أنهم قد عنوا بالحديث وجمعه وروايته واستقصائه عناية كبيرة لأنه مصدر أساسي من مصادر الفقه التشريع، ولكنهم بعد ذلك كانوا أكثر حرية من غيرهم وأكثر جرأة على استخدام العقل، فكانوا يقولون برأيهم، حيث يتوقف غيرهم، إذا لم يجدوا نصًّا في القرآن أو الحديث. والأمر الثاني: أن المدرسة الأخرى وهي مدرسة أهل الحديث في المدينة قد اتهمت مدرسة الكوفة بوضع الأحاديث والتزيد فيها،


١ ضحى الإسلام ١٥٣-١٥٤.
٢ انظر المرجع السابق ٢: ١٥٢.

<<  <   >  >>