للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

به عنه ولا يجوِّز إلا أفصح اللغات ويلج في دفع ما سواه..؟.. وكان أبو زيد وأبو عبيدة يخالفانه ويناوئانه كما يناوئهما، فكلهم كان يطعن على صاحبيه بأنه قليل الرواية ولا يذكره بالتزيد؛ وكان أبو زيد أقلهم طعنًا على غيره؛ وكان أبو عبيدة يطعن على الأصمعي بالبخل وضيق العطن؛ فكان الأصمعي إذا ذكر أبا عبيدة قال: ذاك ابن الحائك ... فانظر إلى هذا الإنصاف بينهم من شدة المنافسة، ثم لا يتهم أحدهم صاحبه بالكذب ولا يقرفه بالتزيد، لأنهم يبعدون عن ذاك ... ".

وقد ذهب ابن جني إلى مثل ذلك، فقد عقد فصلًا عنوانه "باب في صدق النقلة وثقة الرواة والحملة" قال فيه: "هذا موضع من هذا الأمر لا يعرف صحته إلا من تصور أحوال السلف، وعرف مقامهم من التوقير والجلالة"، ثم ذكر من أخلاق بعض الرواة العلماء مثل أبي عمرو بن العلاء والأصمعي وأبي زيد وأبي عبيدة وأبي حاتم ما يوثقهم به ويدفع عنهم ما رُموا به. وقد قال عن الأصمعي: "وهذا الأصمعي، وهو صناجة الرواة والنقلة، وإليه محط الأعباء والثقلة ... كانت مشيخة القراء وأماثلهم تحضره وهو حدث لأخذ قراءة نافع عنه؛ ومعلوم قدر ما حذف من اللغة فلم يثبته؛ لأنه لم يقوَ عنده إذ لم يسمعه.

وأما إسفاف من لا علم له، وقول من لا مسكة به: إن الأصمعي كان يزيد في كلام العرب ويفعل كذا ويقول كذا فكلام معفو عليه، غير معبوء به ... " ثم ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عما قدمناه من أمر العصبية بين البصرة والكوفة والخصومات التي نشأت بين العلماء الرواة، فيرى فيها رأيًا لا بأس من إيراده، إذ يرى في هذا الاتهام الذي كانوا يتبادلونه دليلًا على مدى تحريهم الدقة وتشددهم في الرواية، قال: "فإن قلت: فإنا نجد علماء هذا الشأن من البلدين، والمتحلين به من المصرين، كثيرًا ما يهجن بعضهم بعضًا، فلا يترك له في ذلك سماء ولا أرضًا. قيل: هذا أدل دليل على كرم هذا الأمر ونزاهة هذا العلم؛ ألا ترى إذا سبق إلى أحدهم ظنة، أو توجهت نحوه شبهة، سُبَّ

<<  <   >  >>