للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إذا أخذت أنت درهمًا فاستحسنته، فقال لك الصراف إنه رديء، هل ينفعك استحسانك له؟ ".

ومن هؤلاء العلماء الرواة الذين جدوا في فحص الشعر الجاهلي ودراسته وروايته وتمييز موضوعه من صحيحه: أبو عبيدة معمر بن المثنى. فقد أتى -هو وابن نوح العطاردي- ابن داوود بن متمم بن نويرة لما قدم البصرة. فسألاه عن شعر أبيه متمم، وقاما له بحاجته، فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويضعها لهما، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها. فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله١. وقد قدمنا في الفصل الثاني من هذا الباب بعض تحقيقات أبي عبيدة في كتاب الخيل.

وقد بلغ رواة الشعر وعلماؤه من التحقيق والتمحيص، وتمييز منحوله، والنص على الموضوع منه، منزلة جعلت بعض العلماء يفضلونهم على رواة الحديث، فقد قال محمد بن سلام٢ "حدثني يحيى بن سعيد القطان قال: رواة الشعر أعقل من رواة الحديث؛ لأن رواة الحديث يروون مصنوعًا كثيرًا، ورواة الشعر ساعة ينشدون المصنوع ينتقدونه ويقولون: هذا مصنوع".

وإذا ما سألنا -كما سأل خلاد بن يزيد الباهلي خلفًا الأحمر- عن مقاييس هؤلاء العلماء الرواة في نقد الشعر وتمييز صحيحه من منحوله ظننا بادئ الرأي أنه لم يكن لهؤالاء القوم مقاييس ثابتة معروفة، وأنهم، إذا ما أجابونا عن هذا السؤال، سيفرون من الإجابة الشافية كما فر منها خلف حينما قال لخلاد إنه إذا كان يعلم أن في الشعر ما هو مصنوع، وإذا كان يعلم أن في الناس من هو أعلم بالشعر منه، فعليه ألا ينكر أن يعلموا من ذلك أكثر مما يعلم. وكذلك حين شبه الناقد للشعر بالصراف من غير أن يذكر لنا مقياسًا واضحًا. ولكننا.


١ طبقات فحول الشعراء: ٤٠.
٢ ذيل الأمالي: ١٠٥.

<<  <   >  >>