وكان من الطبيعي بعد ذلك أن نخصص الحديث، في الباب الثاني، بكتابة الشعر الجاهلي وحده. ورأينا أن هذه الكتابة ذات صورتين مختلفتين: صورة ضيقة محدودة لا تعدو مجرد التسجيل على صحيفة واحدة قد تزيد أو تنقص، وسميناها التقييد؛ وصورة واسعة تضم فيها هذه الصحف إلى بعضها حتى يكون منها كتاب أو ديوان، وسميناها: التدوين.
ثم رأينا أن بين أيدينا ضربين من الأدلة على تقييد الشعر الجاهلي منذ الجاهلية نفسها؛ وهما: أدلة عقلية استنباطية، وأدلة صريحة نصية.
أما الأدلة العقلية الاستنباطية فأربعة: أولها استنتجناه من كل ما قدمناه في الباب الأول عن معرفة عرب الجاهلية بالكتابة، ورأينا أن الشعر كان للقبيلة وللفرد العربي في الذروة العليا من القيمة والخطر: إذ هو ديوان أمجادهم وأحسابهم، وسجل مفاخرهم ومآثرهم. وكانت القبيلة تحرص أشد الحرص على فخر الشاعر إذا كان منها، وعلى مدحه إذا كان من غيرها، وتخشى أشد الخشية هجاءه، تبذل من ذات نفسها ومالها ما تطيق وفوق ما تطيق لتدفعه عن نفسها؛ وكذلك كان الرجل العربي في حرصه على المدح وخوفه من الهجاء. فإذا كان العرب آنذاك يقيدون عهودهم ومواثيقهم ورسائلهم وصكوك حسابهم وسواها من الموضوعات التي تتصل بشئون حياتهم، ألا يرجح ذلك أنهم كانوا كذلك يقيدون هذا الشعر الذي يخلد أمجادهم وأحسابهم ويسجل مفاخرهم ومآثرهم؟ وإذا كان أمر الشعر بهذا الخطر للممدوحين، فهل كان ملوك الحيرة وملوك غسان وإشراف مكة والمدينة والطائف وساداتها وأثرياؤها، وسادات نجران واليمن، هل كان كل أولئك لا يقيدون ما يُمدحون به من الشعر -أو بعضه- مع أنهم كانوا يقيدون سائر أمورهم؟