وثانيها: أن الشعر كان له من القيمة والخطر للشعراء أنفسهم ما كان للقبيلة وللممدوحين. فقد كان هذا الشعر عند غير المتكسبين بالمدح واجبًا قبليًّا تفرضه على الشاعر طبيعة ارتباطه بقبيلته، أو واجبًا خلقيًّا تمليه عليه مآثر سلفت من صاحبها لقبيلة الشاعر أو للشاعر نفسه، وأما المتكسبون بالمدح فقد كان الشعر موردًا من موارد ارتزاقهم، أو لعله المورد الوحيد. أليس عجيبًا بعد ذلك ألا يُعنَى الشاعر، وهذه قيمة الشعر عنده، بأن تحفظ الكتابة شعره أو بعضه؟ ولا سيما الشعراء الذين كانوا يعرفون الكتابة ويستخدمونها، وقد عددنا منهم في هذا الفصل طائفة ليست قليلة.
وثالث هذه الأدلة العقلية يتناول ضربًا خاصًّا من الشعر الذي وصفه في شعره: امرؤ القيس بن بكر، وكعب بن زهير، ثم وصفه الجاحظ وابن جني -والذي هو نتاج عمل عقلي مركب.
فإذا كنا لا ننكر أن بعض الشعراء كانوا يرتجلون الشعر ارتجالًا، وأن بعضهم كان يندلث منهم الشعر اندلاثًا هينًا سمحًا، وأن هاتين الطائفتين أو بعض رجالهما لا تضطرهم طبيعة هذا الضرب من الشعر إلى تقييده وإثباته بالكتابة إذا كنا لا ننكر ذلك، فإنه لابد لنا من أن نتريث قليلًا عند الفئة الأخرى من الشعراء وشعرهم، وأن نتوقف عن أن نسحب عليهم حكم الضرب الأول. ويبدو لنا أنه لابد من أن نرجح أن الشاعر الذي كانت تمكث عنده القصيدة حولًا كاملًا أو زمنًا طويلًا، يردد فيها نظره، ويجيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه؛ والشاعر الذي كان يعرض له في الشعر من الصبر عليه، والملاطفة له، والتلوم على رياضته، وإحكام صنعته نحو مما يعرض لكثير من المولدين؛ والشاعر الذي كانت تكثر عليه القوافي فيذودها عنه ذيادًا، ثم ينتقي منها الجيد انتقاء، وينظر إلى قوافيه وألفاظه نظرة الجوهري إلى لآلئه، يعزل مرجانها جانبًا، ويأخذ المستجاد من درها؛ والشاعر الذي يتنخل كلامه تنخلًا، ويثقف ألفاظه وقوافيه حتى تلين متونها نرجح أن هؤلاء الشعراء لم