للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يكونوا ليستطيعوا أن يقوموا بهذا العمل العقلي الذي يستغرق هذا الوقت الطويل دون أن يكون الشعر مقيدًا أمامهم على صحيفة يرجعون إليها بين وقت وآخر: يزيدون عليه أو ينقصون منه، ويستبدلون لفظة بلفظة، وقافية بقافية.

وآخر هذه الأدلة العقلية هو ما وجدناه من شعر جاهلي يحفل بذكر الكتابة وصورها، والإشارة غلى أدواتها، وتشبيه الأطلال والرسوم ببقايا الخطوط على الرق والمهارق وسائر أنواع الصحف. ولم نذكر من هذا الشعر إلا ما فيه صور شعرية مركبة تنبئ عن أن قائلها لابد أن يكون عالمًا بهذه الصور، وأن الجاهل بها لا يتأتى له ذكرها ووصفها على هذا الوجه المفصل.

وبعد أن استوفينا هذه الأدلة العقلية التي استنتجنا منها أن بعض شعراء الجاهلية ربما استخدموا الكتابة في تقييد بعض شعرهم، انتقلنا إلى ذكر الأدلة الصريحة المباشرة، فأوردنا ما يزيد على عشرين نصًّا ورواية، لممنا نثارها، وجمعنا متفرقها، ونظمناها في سلك واحد لنرى أنها واضحة صريحة في أن بعض الشعر الجاهلي كان يقيد، سواء أكان الشعراء الجاهليون أنفسهم هم الذين يقيدونه بخط أيديهم، أم كانوا يستكتبون غيرهم لتقييد شعرهم.

أما تدوين الشعر الجاهلي فقد وجدنا أننا لا تستقيم لنا طرائق بحثه إلا إذا عبدنا من حوله سبل الحديث عن نشأة التدوين العام وأوائل المؤلفات المدونة، وذلك لأنه لا تخصيص إلا بعد تعميم، فإذا كان الأصل الكلي -وهو التدوين عامة- ما زال غامض النشأة، مشكوكًا في بداياته، منكورًا قدمه وسبقه، فإن الفرع الجزئي -وهو تدوين الشعر الجاهلي بخاصة- لا يصح أن يقوم وحده معلقًا في الفضاء وحوله سحب الشك والإنكار. ومن أجل ذلك مهدنا بحديث موجز انتهى بنا لى ثلاثة أمور:

الأول: أن صحف الكتابة كانت -منذ ظهور الإسلام وفي القرن الأول الهجري- من الكثرة والشيوع بمنزلة يتيسر معها، لمن أراد، أن يشتري منها ما يفي بحاجته، فيستطيع أن يضم بعضها إلى بعض، ويؤلف أجزاءها، ويجعل من

<<  <   >  >>